ثم ذكر عدم المانع لهم من الانقياد فقال { يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي : غرامة من أموالكم ، على ما دعوتكم إليه ، فتقولوا : هذا يريد أن يأخذ أموالنا ، وإنما أدعوكم وأعلمكم مجانا .
{ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ } ما أدعوكم إليه ، وأنه موجب لقبوله ، منتف المانع عن رده .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَقَوْمِ لآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى الّذِي فَطَرَنِيَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه : يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها جزاء وثوابا . إنْ أجْرِيَ إلاّ على الّذِي فَطَرَنِي يقول : إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم ، ودعائكم إلى الله ، إلا على الذي خلقني . أفَلا تَعْقِلُونَ يقول : أفلا تعقلون أني لو كنت أبتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم وطلب الحظّ لكم في الدنيا والاَخرة لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا وطلبت منكم الأجر والثواب ؟
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنْ أجْرِيَ إلاّ على الّذِي فَطَرَنِي أي خلقني .
وقرأ جمهور الناس : «يا قومِ » بكسر الميم ، وقرأ ابن محيصن : «يا قومُ » برفع الميم ، وهي لغة حكاها سيبويه ، وقرأ جمهور الناس : «غيرهُ » بالرفع على النعت أو البدل من موضع قوله : { من إله } . وقرأ الكسائي وحده بكسر الراء ، حملاً على لفظ : { إله } وذلك أيضاً على النعت أو البدل ويجوز «غيرَه » نصباً على الاستثناء .
و { مفترون } معناه كاذبون أفحش كذب في جعلكم الألوهية لغير الله تعالى ، والضمير في قوله : { عليه } عائد على الدعاء إلى الله تعالى ، والمعنى : ما أجرى وجزائي إلا من عند الله ، ثم وصفه بقوله { الذي فطرني } فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل ، فجعل الوصف بذلك في درج كلامه ، منبهاً على أفعال الله تعالى ، وأنه هو الذي يستحق العبادة ، و «فطر » معناه اخترع وأنشأ ، وقوله : { أفلا تعقلون } توقيف على مجال القول بأن غير الفاطر إله ، ويحتمل أن يريد .
جملة { يا قوم لا أسألكم عليه أجراً } إن كان قالها مع الجملة التي قبلها فإعادة النداء في أثناء الكلام تكرير للأهمية ، يقصد به تهويل الأمر واسترعاء السمع اهتماماً بما يستسمعونه ، والنداء هو الرابط بين الجملتين ؛ وإن كانت مقولة في وقت غير الذي قيلت فيه الجملة الأولى ، فكونها ابتداء كلام ظاهر .
وتقدم تفسير { لا أسألكم عليه أجراً } في قصة نوح عليه السّلام ، أي لا أسألكم أجراً على ما قلته لكم .
والتعبير بالموصول { الذي فطرني } دون الاسم العلم لزيادة تحقيق أنّه لا يسألهم على الإرشاد أجراً بأنه يعلم أن الذي خلقه يسوق إليه رزقه ، لأن إظهار المتكلم علمه بالأسباب يكسب كلامه على المسببات قوة وتحقيقاً .
ولذلك عطف على ذلك قوله : { أفلا تعقلون } بفاء التفريع عاطفة استفهاماً إنكارياً عن عدم تعقلهم ، أي تأملهم في دلالة حاله على صدقه فيما يبلغ ونصحه لهم فيما يأمرهم . والعقل : العلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ذلك قول هود: {يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري} يعني ما جزائي {إلا على الذي فطرني} يعني خلقني، {أفلا تعقلون} أنه ليس مع الله شريك...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هود لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها جزاء وثوابا.
"إنْ أجْرِيَ إلاّ على الّذِي فَطَرَنِي" يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم ودعائكم إلى الله، إلا على الذي خلقني.
"أفَلا تَعْقِلُونَ" يقول: أفلا تعقلون أني لو كنت أبتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم وطلب الحظّ لكم في الدنيا والآخرة لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا وطلبت منكم الأجر والثواب...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي) هذا قد ذكر في غير موضع، يقول لهم، والله أعلم، إني لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا يمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عن الإجابة. فما الذي يمنعكم عن الإجابة لي؟ بل أدعوكم إلى ما أدعوكم إليه ما ترغبون فيه، فكيف يمنعكم عن الإجابة والنظر في ما أدعوكم إليه (أفلا تعقلون) أني رسول الله إليكم بآيات وحجج، جئت بها؟ (أفلا تعقلون) أنها آيات وحجج ونحوها؟ أو يقول: (أفلا تعقلون) أن الله واحد، وأنه رب كل شيء وخالق كل شيء ومنشئه؟...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لم يأتِ نبيٌّ من الأنبياء- عليهم السلام- إلاَّ وأَخْبَرَ أنه ليس له أنْ يطلبَ في الجملة أجْرَاً إلا من اللّهِ لا من غير الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجراً إلا من الله. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله: {عليه} عائد على الدعاء إلى الله تعالى، والمعنى: ما أجرى وجزائي إلا من عند الله، ثم وصفه بقوله {الذي فطرني} فجعلها صفة رادة عليهم في عبادتهم الأصنام واعتقادهم أنها تفعل، فجعل الوصف بذلك في درج كلامه، منبهاً على أفعال الله تعالى، وأنه هو الذي يستحق العبادة، و «فطر» معناه اخترع وأنشأ. وقوله: {أفلا تعقلون} توقيف على مجال [لعل الصواب: محال] القول بأن غير الفاطر إله، ويحتمل أن يريد:"أَفَلا تَعْقِلُونَ" إذ لم أطلب عرضا من أعراض الدنيا إني إنما أريد النفع لكم والدار الآخرة، والأول أظهر.
اعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام، أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف:
فالنوع الأول: أنه دعاهم إلى التوحيد، فقال: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون} وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى؟ قلنا: دلائل وجود الله تعالى ظاهرة، وهي دلائل الآفاق والأنفس. وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}...
ثم قال: {إن أنتم إلا مفترون} يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها، أو في قولكم إنها تستحق العبادة، وكيف لا يكون هذا كذبا وافتراء وهي جمادات لاحس لها ولا إدراك، والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيما لها، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال: و {يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذي فطرني} وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام، وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع، قوي تأثيرها في القلب. ثم قال {أفلا تعقلون} يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام، وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع، كأنه مركوز في بدائه العقول...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم نفى أن يكون له في ذلك غرض غير نصحهم بقوله موضع: إني ناصح لكم بهذا الأمر فلا يسوءكم مواجهتي لكم فيه بما تكرهون.
{يا قوم} مكرراً لاستعطاف {لا أسألكم} أي في المستقبل كما لم أسالكم في الماضي {عليه} أي على هذا الإنذار {أجراً} أي فلست موضع تهمة {إن} أي ما؛ {أجري} ثم وصف من توكل عليه سبحانه بما يدل على الكفاية فعليّ وجوب شكره فقال: {إلا على الذي فطرني} أي أبتدأ خلقي ولم يشاركه فيّ أحد فهو الغني المطلق لا أوجه رغبتي إلى غيره كما يجب على كل أحد ذلك لكونه فطرة. ولما كان الخلاف الذي لا حظ فيه جهة الدنيا لا يحتاج الإنسان في الدلالة على أن صاحبه ملجأ إليه من جهة الله، وأنه لا نجاة إلا به إلى غير العقل، سبب عن قوله هذا الإنكار عليهم في قوله: {أفلا تعقلون}...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
وكرر قوله: {يا قوم} للاستعطاف، وقوله: {لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني} أي: خلقني، خاطب به كل رسول قومه إزالة للتهمة وتمحيضاً للنصيحة، فإنها لا تنجح ما دامت مشوبة بالمطامع.
{أفلا تعقلون} أي: أفلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ فتتعظون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة، فليس له من ورائها هدف. وما يطلب على النصح والهداية أجرا. إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل: (يا قوم لا أسألكم عليه أجرا. إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون؟). مما يشعر أن قوله: (لا أسألكم عليه أجرا) كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرا أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها. وكان التعقيب: (أفلا تعقلون؟) للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولا من عند الله يطلب رزقا من البشر، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوت هؤلاء الفقراء!
كأن هودا عليه السلام يقول لهم: ما الذي يشق عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه، إنني أقدم لكم هذا البلاغ من الله تعالى، ولا أسألكم عليه أجرا، فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم، ثم آخذ منكم مالا مقابل ذلك، ولا يمكن أن أجمع عليكم مشقة ترك ما تعودتم عليه وكذلك أجر تلك الدعوة. وما دمت لن آخذ منكم أجرا، إذن: فلا مشقة أكفلكم بها، كما أنني في غنى عن ذلك الأجر؛ لأن أجري على من أرسلني...
وقول هود عليه السلام: {لا أسألكم عليه أجرا} يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجرا كبيرا مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛ لأن الأجر الذي تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلا لمنافع موقوتة، لكن ما يقدمه لهم هود عليه السلام هو منفعة غير موقوتة! ولذلك ترك هود عليه السلام الأجر لمن يقدر عليه، وهو الله سبحانه وتعالى. فهو القادر على كل شيء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} لأني لست تاجر مبادئ ورسالات يستغلّها في سبيل تحقيق الربح، والحصول على الثمن من أتباعه، فلا أريد منكم أيّ امتياز ماديٍّ ومعنويٍّ، لأن الرساليين الذين يعيشون حياتهم للرسالة لا يبتغون منها عوضاً، بل قد يفكرون بالتضحية بالمال وبالجاه إذا احتاجت حركة الرسالة لذلك، لأن الهمّ الكبير لديهم هو رضوان الله وثوابه، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} وخلقني من عدم، فله الفضل عليّ في نعمة الوجود كله. ولهذا فإن الدعوة إلى عبادته، ورفض ما عداه، يمثل الوجه المشرق لعمليّة الشكر الإنساني بين يدي الله، بالإضافة إلى أنه الوجه الأصيل للحقيقة الكونية والعملية في الحياة، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وتناقشون المسألة من موقع الفكر، لا من موقع الغريزة، لتعرفوا طبيعة القاعدة التي ترتكز عليها حياتكم، وطبيعة الرسول الذي يدعوكم إلى الانطلاق في خط الله...