مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يَٰقَوۡمِ لَآ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ أَجۡرِيَ إِلَّا عَلَى ٱلَّذِي فَطَرَنِيٓۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ} (51)

واعلم أنه تعالى حكى عن هود عليه السلام ، أنه دعا قومه إلى أنواع من التكاليف :

فالنوع الأول : أنه دعاهم إلى التوحيد ، فقال : { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون } وفيه سؤال وهو أنه كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل أن أقام الدلالة على ثبوت الإله تعالى ؟

قلنا : دلائل وجود الله تعالى ظاهرة ، وهي دلائل الآفاق والأنفس . وقلما توجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله تعالى ، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } .

قال مصنف هذا الكتاب : محمد بن عمر الرازي رحمه الله وختم له بالحسن ، دخلت بلاد الهند فرأيت أولئك الكفار مطبقين على الاعتراف بوجود الإله ، وأكثر بلاد الترك أيضا كذلك ، وإنما الشأن في عبادة الأوثان ، فإنها آفة عمت أكثر أطراف الأرض . وهكذا الأمر كان في الزمان القديم ، أعني زمان نوح وهود وصالح عليهم السلام ، فهؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، كانوا يمنعونهم من عبادة الأصنام ، فكان قوله : { اعبدوا الله } معناه لا تعبدوا غير الله ، والدليل عليه أنه قال عقيبه : { مالكم من إله غيره } وذلك يدل على أن المقصود من هذا الكلام منعهم عن الاشتغال بعبادة الأصنام .

وأما قوله : { مالكم من إله غيره } فقرئ { غيره } بالرفع صفة على محل الجار والمجرور ، وقرئ بالجر صفة على اللفظ .

ثم قال : { إن أنتم إلا مفترون } يعني أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام تحسن عبادتها ، أو في قولكم إنها تستحق العبادة ، وكيف لا يكون هذا كذبا وافتراء وهي جمادات لاحس لها ولا إدراك ، والإنسان هو الذي ركبها وصورها فكيف يليق بالإنسان الذي صنعها أن يعبدها وأن يضع الجبهة على التراب تعظيما لها ، ثم إنه عليه الصلاة والسلام لما أرشدهم إلى التوحيد ومنعهم عن عبادة الأوثان قال : و { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذي فطرني } وهو عين ما ذكره نوح عليه السلام ، وذلك لأن الدعوة إلى الله تعالى إذا كانت مطهرة عن دنس الطمع ، قوي تأثيرها في القلب .

ثم قال { أفلا تعقلون } يعني أفلا تعقلون أني مصيب في المنع من عبادة الأصنام ، وذلك لأن العلم بصحة هذا المنع ، كأنه مركوز في بدائه العقول .