وقوله : { إِنَّمَا السَّبِيلُ } أي : إنما الحرج والعنت { عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : يبدؤون الناس بالظلم . كما جاء في الحديث الصحيح : " المستبَّان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَد المظلوم " .
{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : شديد موجع .
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا سعيد بن زيد - أخو حماد بن زيد - حدثنا عثمان الشحام ، حدثنا{[25944]} محمد بن واسع قال : قدمت مكة فإذا على الخندق مَنْظَرَة ، فأخذت فانطلق بي إلى مروان بن المهلب ، وهو أمير على البصرة ، فقال : حاجتك يا أبا عبد الله . قلت حاجتي إن استطعت أن تكون كما قال أخو بني عدي . قال : ومن أخو بني عدي ؟ قال : العلاء بن زياد ، استعمل صديقا له مرة على عمل ، فكتب إليه : أما بعد فإن استطعت ألا تبيت إلا وظهرك خفيف ، وبطنك خميص ، وكفك نقية من دماء المسلمين وأموالهم ، فإنك إذا فعلت {[25945]} ذلك لم يكن عليك سبيل ، { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فقال{[25946]} صدق والله ونصح ثم قال : ما حاجتك يا أبا عبد الله ؟ قلت : حاجتي أن تلحقني بأهلي . قال : نعم رواه ابن أبي حاتم{[25947]} .
وقوله : إنّمَا السّبِيلُ على الّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ يقول تبارك وتعالى : إنما الطريق لكم أيها الناس على الذين يتعدّون على الناس ظلما وعدوانا ، بأن يعاقبوهم بظلمهم لا على من انتصر ممن ظلمه ، فأخذ منه حقه .
وقوله : وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بغَيْرِ الحَقّ يقول : ويتجاوزون في أرض الله الحدّ الذي أباح لهم ربهم إلى ما لم يأذن لهم فيه ، فيفسدون فيها بغير الحقّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ يقول : فهؤلاء الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحقّ ، لهم عذاب من الله يوم القيامة في جهنم مؤلم موجع .
المعنى إنما سبيل الحكم والإثم { على الذين يظلمون الناس } ، أي الذين يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد وباللسان . والبغي بغير الحق وهو نوع من أنواع الظلم ، خصه بالذكر تنبيهاً على شدته وسوء حال صاحبه ، ثم توعدهم تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة .
وقوله تعالى : { إنما السبيل } وقوله : { أليم } اعتراض بين الكلامين ،
استئناف بياني فإنه لما جرى الكلام السابق كله على الإذن للذين بُغِي عليهم أن ينتصروا ممن بغَوا عليهم ثم عقب بأن أولئك ما عليهم من سبيل كان ذلك مثار سؤالِ سائِلٍ عن الجانب الذي يقع عليه السبيل المنفي عن هؤلاء .
والقصر المفاد ب { إنما } تأكيد لمضمون جملة { فأولئك ما عليهم من سبيل } [ الشورى : 41 ] لأنه كان يكفي لإفادة معنى القصر أن يقابل نفيُ السبيل عن الذين انتصروا بعد ظلمهم بإثبات أنّ السبيل على الظالمين ، لأن إثبات الشيء لأحد ونفيه عمن سواه يفيد معنى القصر وهو الأصل في إفادة القصر بطريق المساواة أو الإطناب كقول آلسّمَؤْأل أو غيره :
تَسيل على حدّ الظُّبات نفوسنا *** وليستْ على غير الظبات تسيلُ
وأما طرق القصر المعروفة في علم المعاني فهي من الإيجاز ، فلما أوردت أداة القصر هُنَا حصل نفي السبيل عن غيرهم مرةً أخرى بمفاد القصر فتأكد حصوله الأولُ الذي حصل بالنفي ، ونظيرُه قوله تعالى : ما على المُحسنين من سبيل إلى قوله : { إنَّما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء } في سورة براءة ( 93 ) .
والمراد { بالسبيل } عين المراد به في قوله : { فأولئك ما عليهم من سبيل } [ الشورى : 41 ] بقرينة أنه أعيد معرَّفا باللام بعد أن ذُكر منكَّراً فإن إعادة اللفظ النكرة معرّفاً بلام التعريف يفيد أن المراد به ما ذكر أولاً . وهذا السبيل الجزاء والتبعة في الدنيا والآخرة .
وشمل عموم { الذين يظلمون } ، وعمومُ { الناس } كلَّ ظالم ، وبمقدار ظلمه يكون جزاؤه . ويدخل ابتداءً فيه الظالمون المتحدَّث عنهم وهم مشركو أهل مكة ، والناسُ المتحدث عنهم وهم المسلمون يومئذٍ .
والبغي في الأرض : الاعتداء على ما وضعه الله في الأرض من الحق الشامل لمنافع الأرض التي خلقت للناس ، مثل تحجير الزرع والأنعاممِ المحكِي في قوله تعالى : { وقالوا هذه أنعام وحَرْث حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إلا مَن نَشاء بزعمهم } [ الأنعام : 138 ] ، ومثل تسييب السائبة وتبحير البَحيرة ، والشامل لمخالفة ما سنّه الله في فطرة البشر من الأحوال القويمة مثل العدللِ وحسن المعاشرة ، فالبغْيُ عليها بمثل الكبرياء والصلف وتحقير الناسسِ المؤمنين وطردِهم عن مجامع القوْم بغيٌ في الأرض بغير الحق .
و{ الأرض } : أرض مكة ، أو جميع الكرة الأرضية وهو الأليق بعموم الآية ، كما قال تعالى : { وإذا تولى سعَى في الأرض ليفسد فيها } [ البقرة : 205 ] وقال : { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } [ الأعراف : 85 ] ، فكل فساد وظلم يقع في جزء من الأرض فهو بغي مظروف في الأرض .
و{ بغير الحق } متعلق ب { يبغون } وهو لكشف حالة البغي لإفادة مذمته إذ لا يكون البغي إلاّ بغيرِ الحق فإن مسمى البغي هو الاعتداء على الحق ، وأما الاعتداء على المبطل لأجل باطله فلا يسمى بغياً ويُسمّى اعتداء قال تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] ، ويقال : استعدَى فلان الحاكمَ على خصمه ، أي طلب منه الحكم عليه .
وجملة { أولئك لهم عذاب أليم } بيان جملة { إنما السبيل على الذين يظلمون } إن أريد ب { السبيل } في قوله : { ما عليهم من سبيل } [ الشورى : 41 ] سبيل العقاب في الآخرة ، أو بدل اشتمال منها إن أريد بالسبيل } هنالك ما يشمل الملام في الدنيا ، أي السبيل الذي عليهم هو أن لهم عذاباً أليماً جزاء ظلمهم وبغيهم .
وحكم هذه الآية يشمل ظُلم المشركين للمسلمين ويشمل ظلم المسلمين بعضهم بعضاً ليتناسب مضمونها مع جميع ما سبق .
وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة لأجل ما ذكر قبله مع تمييزهم أكمل تمييز بهذا الوعيد .