ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا ، وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر : ( فرجعوا إلى أنفسهم ، فقالوا : إنكم أنتم الظالمون ) . .
وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف ، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم . وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم ، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون .
قوله تعالى { فرجعوا إلى أنفسهم } يجوز أن يكون معناه فرجع بعضهم إلى بعض ، أي أقبل بعضهم على خطاب بعض وأعرضوا عن مخاطبة إبراهيم على نحو قوله تعالى : { فسلِّموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] ، أي فقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون .
وضمائر الجمع مراد منها التوزيع كما في : ركب القومُ دوابهم ، ويجوز أن يكون معناه فرجع كل واحد إلى نفسه ، أي ترك التأمل في تهمة إبراهيم وتدبر في دفاع إبراهيم . فلاح لكل منهم أن إبراهيم بريء فقال بعضهم لبعض { إنكم أنتم الظالمون } . وضمائر الجمع جارية على أصلها المعروف . والجملة مفيدة للحصرْ ، أي أنتم ظالمون لا إبراهيم لأنكم ألصقتم به التهمة بأنه ظَلَم أصنامنا مع أن الظاهر أن نسألها عمّن فعلَ بها ذلك ، ويظهر أن الفاعل هو كبيرهم .
والرجوع إلى أنفسهم على الاحتمالين السابقين مستعار لشغل البال بشيء عقب شغله بالغير ، كما يرجع المرء إلى بيته بعد خروجه إلى مكان غيره .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فذكروا حين قال لهم إبراهيم صلوات الله عليه:"بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا فاسْألُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ" في أنفسهم، ورجعوا إلى عقولهم، ونظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: إنكم معشر القوم الظالمون هذا الرجل في مسألتكم إياه وقيلكم له من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرتكم فاسألوها...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن رجع بعضهم إلى بعض. الثاني: أن رجع [كل] واحد منهم إلى نفسه متفكراً فيما قاله إبراهيم، فحاروا عما أرادوه من الجواب فأنطقهم الله تعالى الحق {فَقَالُوا: إِنَّكم أَنتُمُ الظَّالِمُونَ} يعني في سؤاله، لأنها لو كانت آلهة لم يصل إبراهيم إلى كسرها، ولو صحبهم التوفيق لآمنوا [لـ] هذا الجواب لظهور الحق فيه على ألسنتهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فلما ألقمهم الحجر وأخذ بمخانقهم، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: أنتم الظالمون على الحقيقة، لا من ظلمتموه حين قلتم: من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعنى فظهر لهم ما قال إبراهيم من أن الأصنام التي قد أهلوها للعبادة ينبغي ان تسأل وتستفسر «فقالوا إنكم الظالمون» في توقيف هذا الرجل على هذا الفعل وأنتم معكم من تسألون، ثم ارتكبوا في ضلالهم ورأوا بالفكرة وبديهة العقل أن الأصنام لا تنطق فسامهم ذلك حتى نطقوا عنه إلى موضع قيام الحجة عليهم.
أما قوله تعالى: {فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون} ففيه وجوه: الأول: أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك. والثاني: قال مقاتل: فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير. وثالثها: المعنى أنكم أنتم الظالمون لأنفسكم حيث سألتم منه عن ذلك حتى أخذ يستهزئ بكم في الجواب، والأقرب هو الأول.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أو {الظالمون} حقيقة حيث نسبتم إبراهيم إلى الظلم في قولكم {إنه لمن الظالمين} إذ هذه الأصنام مستحقة لما فعل بها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان روح الكلام إقراره بالفعل وجعلهم موضع الهزء لأنهم عبدوا ما لا قدرة له على دفاع أصلاً تسبب عنه قوله تعالى الدال على خزيهم: {فرجعوا} أي الكفرة {إلى أنفسهم} بمعنى أنهم فكروا فيما قال فاضطرهم الدليل إلى أن تحققوا أنهم على محض الباطل، وأن هذه الشرطية الممكنة عقلاً غير ممكنة عادة {فقالوا} يخاطب بعضهم بعضاً مؤكدين لأن حالهم يقتضي إنكارهم لظلمهم: {إنكم أنتم} خاصة {الظالمون} لكونكم وضعتم العبادة في غير موضعها، لا إبراهيم فإنه أصاب في إهانتهم سواء المحزّ ووافق عين الغرض، وفي أنكم بعد أن عبدتموها ولا قدرة لها تركتموها بلا حافظ.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فحصل بذلك المقصود، ولزمتهم الحجة بإقرارهم أن ما هم عليه باطل وأن فعلهم كفر وظلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويبدو أن هذا التهكم الساخر قد هزهم هزا، وردهم إلى شيء من التدبر والتفكر: (فرجعوا إلى أنفسهم، فقالوا: إنكم أنتم الظالمون).. وكانت بادرة خير أن يستشعروا ما في موقفهم من سخف، وما في عبادتهم لهذه التماثيل من ظلم. وأن تتفتح بصيرتهم لأول مرة فيتدبروا ذلك السخف الذي يأخذون به أنفسهم، وذلك الظلم الذي هم فيه سادرون.
أي: تنبهوا وعادوا إلى عقولهم، ونطقوا بالحق: {إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64)} (الأنبياء): يعني: بعبادتكم هذه الأصنام، وأنتم تعلمون أنها لا تنفع ولا تضر، ولا ترى ولا تكلم.
هكذا واجهوا أنفسهم بهذه الحقيقة وكشفوا عن بطلان هذه العبادة، لكن هذه الصحوة ستكون على حسابهم، وخسارتهم بها ستكون كبيرة، هذه الصحوة ستفقدهم السلطة الزمنية التي يعيشون في ظلها، وينتفعون من ورائها بما يهدى للأصنام؛ لذلك سرعان ما يتراجعون ويعودون على أعقابهم بعد أن غلبهم الواقع وتذكروا ما تجره هذه الصحوة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الواقع فإنّ كلّ مراد إبراهيم من تحطيم الأصنام تحطيم فكر الوثنية وروح الصنمية، لا تحطيم الأصنام ذاتها، إذ لا جدوى من تحطيمها إذا صنع الوثنيّون العنودون أصناماً أكبر منها وجعلوها مكانها، وتوجد أمثلة كثيرة لهذه المسألة في تاريخ الأقوام الجاهلين المتعصّبين.
إلى الآن استطاع إبراهيم أن يجتاز بنجاح مرحلة حسّاسة جداً من طريق تبليغه الرسالة، وهي إيقاظ الضمائر عن طريق إيجاد موجة نفسيّة هائجة. ولكن للأسف، فإنّ صدأ الجهل والتعصّب والتقليد الأعمى كان أكبر من أن يُصقل ويُمحى تماماً بنداء بطل التوحيد.