{ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } فتيقنوا ذلك واجزموا به واعلموا أنه لا بد من وقوعه .
فلما نزلت هذه الآيات التي فيها هذا الوعد صدق بها المسلمون ، وكفر بها المشركون حتى تراهن بعض المسلمين وبعض المشركين على مدة سنين عينوها ، فلما جاء الأجل الذي ضربه اللّه انتصر الروم على الفرس وأجلوهم من بلادهم التي أخذوها منهم وتحقق وعد اللّه .
وهذا من الأمور الغيبية التي أخبر بها اللّه قبل وقوعها ووجدت في زمان من أخبرهم اللّه بها من المسلمين والمشركين . { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } أن ما وعد اللّه به حق فلذلك يوجد فريق منهم يكذبون بوعد الله ، ويكذبون آياته .
( وعد الله . لا يخلف الله وعده . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) . .
ذلك النصر وعد من الله ، فلابد من تحققه في واقع الحياة : ( لا يخلف الله وعده )فوعده صادر عن إرادته الطليقة ، وعن حكمته العميقة . وهو قادر على تحقيقه ، لا راد لمشيئته ، ولا معقب لحكمه ، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء .
وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون )ولو بدا في الظاهر أنهم علماء ، وأنهم يعرفون الكثير . ذلك أن علمهم سطحي ، يتعلق بظواهر الحياة ، ولا يتعمق سننها الثابتة ، وقوانينها الأصيلة ؛ ولا يدرك نواميسها الكبرى ، وارتباطاتها الوثيقة :
وقوله : { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } أي : هذا{[22776]} الذي أخبرناك به - يا محمد - من أنا سننصر الروم على فارس ، وعد من الله حق ، وخَبَر صدق لا يخلف ، ولا بد من كونه ووقوعه ؛ لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ، ويجعل لها العاقبة ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل .
انتصب { وعد الله } على المفعولية المطلقة . وهذا من المفعول المطلق المؤكد لمعنى جملةٍ قبله هي بمعناه ويُسميه النحويون مصدراً مؤكداً لنفسه تسمية غريبة يريدون بنفسه معناه دون لفظه . ومثله في « الكشاف » ومثلوه بنحو « لك عليَّ ألفٌ عرفاً » لأن عرفاً بمعنى اعترافاً ، أكد مضمون جملة : لك علي ألف ، وكذلك { وَعْدَ الله } أكد مضمون جملة { وهُمْ مِنْ بَعْدِ غلبهم سيغلبون في بِضع سنين } [ الروم : 3 ، 4 ] .
وإضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه . وجملة { لا يخلف الله وعده } بيان للمقصود من جملة { وَعْدَ الله } فإنها دلت على أنه وعد محقَّق بطريق التلويح ، فبيّن ذلك بالصريح بجملة { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف ، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده ، ولما في جملة { لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } من إدخال الرَّوع على المشركين بهذا التأكيد . وسماه وعداً نظراً لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا . وهو أيضاً وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دِينهم .
وموقع الاستدراك في قوله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } هو ما اقتضاه الإجمال . وتفصيله من كون ذلك أمراً لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالباً ، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دَولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم .
فالمراد ب { أكثر الناس } ابتداءً المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم وقوعه . ويشمل المرادُ أيضاً كلَّ من كان يَعُد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلاً ، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم ، ومن أهل الأمم الأخرى ، ومن الروم أنفسهم ، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة ب { أكْثَر النَّاس } بصيغة التفضيل . والتعريف في { النَّاس } للاستغراق .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وعد الله لا يخلف الله وعده} وذلك أن الله عز وجل وعد المؤمنين في أول السورة أن يظهر الروم على فارس حين قال تعالى: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} على أهل فارس، وذلك قوله عز وجل: {وعد الله لا يخلف الله وعده} بأن الروم تظهر على فارس، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يعني كفار مكة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وعد الله جلّ ثناؤه، وعد أن الروم ستغلب فارس من بعد غلبة فارس لهم...
"لا يُخْلفُ اللّهُ وَعْدَهُ" يقول تعالى ذكره: إن الله يفي بوعده للمؤمنين أن الروم سيغلبون فارس، لا يخلفهم وعده ذلك، لأنه ليس في مواعيده خلف. "ولكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يعْلَمُونَ" يقول: ولكنّ أكثر قريش الذين يكذّبون بأن الله منجز وعده المؤمنين، من أن الروم تغلب فارس، لا يعلمون أن ذلك كذلك، وأنه لا يجوز أن يكون في وعد الله إخلاف.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنما يكون خُلْفَ الوعد في الشاهد لأحد خصال ثلاث: إما الندامة: استقبلته في ما وعد، فتمنعه تلك الندامة عن إنجاز ما وعد وحفظ الوفاء له. وإما الحاجة: وقعت له في ما وعد، فتمنعه تلك الحاجة عن وفاء ما وعد وإنجاز ما أطمع. وإما العجز: يكون به، لا يقدر على إنجاز ما وعد فيحمله عجزه عن وفاء ما وعد وإنجازه. فإذا كان الله سبحانه يتعالى عن الوجوه التي ذكرنا كان ما وعد لم يحتمل الخلف منه، ولا قوة إلا بالله.
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يحتمل قوله: {لا يعلمون} لما لم ينظروا، ولم يتفكّروا في الأسباب التي هي أسباب العلم بعد ما أعطاهم أسباب العلم. لكنهم إذا تركوا النظر في الأسباب والتفكر فيها لم يعلموا، فلم يعذروا بذلك لتركهم النظر والتفكر فيها.
ويحتمل قوله: {لا يعلمون} أي: لا ينتفعون بما علموا، فنفى عنهم العلم لما لم ينتفعوا بهذه الحواس، وإن كانت لهم هذه الحواس...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"ولكن أكثر الناس لا يعلمون" صحة ما أخبرناك به لجهلهم بالله وتفريطهم في النظر المؤدي إلى معرفة الله.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يريد الكفار من قريش والعرب، أي لا يعلمون أن الأمور من عند الله وأن وعده لا يخلف وأن ما يورده نبيه حق.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نزل هذا على قوم أكثرهم له منكر، أكده سبحانه بما يقوي قلوب أصفيائه بتبيين المراد، ويرد ألسنة أعدائه عن كثير من العناد، ويعرفهم أنه كما صدق في هذا الوعد لأجل تفريح أوليائه فهو يصدق في وعد الآخرة ليحكم بالعدل، ويأخذ لهم حقهم ممن عاداهم، ويفضل عليهم بعد ذلك بما يريد، فقال: {وعد الله} أي الذي له جميع صفات الكمال، وهو متعال عن كل شائبة نقص،... فلذلك {لا يخلف} وأعاد ذكر الجلالة تنبيهاً على عظم الأمر فقال: {الله} أي الذي له الأمر كله. ولما كان لا يخلف شيئاً من الوعد، لا هذا الذي في أمر الروم ولا غيره، أظهر فقال: {وعده} كما يعلم ذلك أولياؤه {ولكن أكثر الناس} وهم أهل الاضطراب والنوس {لا يعلمون} أي ليس لهم علم أصلاً، ولذلك لا نظر لهم يؤدي إلى أنه وعد و أنه لا بد من وقوع ما وعد به في الحال التي ذكرها لأنه قادر و حكيم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} أيَّ وعدٍ كانَ ممَّا يتعلَّقُ بالدُّنيا والآخرةِ لاستحالةِ الكذبِ عليهِ سبحانَه. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتعليلِ الحُكمِ وتفخيمِه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك النصر وعد من الله، فلابد من تحققه في واقع الحياة: (لا يخلف الله وعده) فوعده صادر عن إرادته الطليقة، وعن حكمته العميقة. وهو قادر على تحقيقه، لا راد لمشيئته، ولا معقب لحكمه، ولا يكون في الكون إلا ما يشاء. وتحقيق هذا الوعد طرف من الناموس الأكبر الذي لا يتغير
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ولو بدا في الظاهر أنهم علماء، وأنهم يعرفون الكثير. ذلك أن علمهم سطحي، يتعلق بظواهر الحياة، ولا يتعمق سننها الثابتة، وقوانينها الأصيلة؛ ولا يدرك نواميسها الكبرى، وارتباطاتها الوثيقة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إضافة الوعد إلى الله تلويح بأنه وعد محقق الإيفاء لأن وعد الصادق القادر الغني لا موجب لإخلافه.
وجملة {لا يخلف الله وعده} بيان للمقصود من جملة {وَعْدَ الله} فإنها دلت على أنه وعد محقَّق بطريق التلويح، فبيّن ذلك بالصريح بجملة {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} ولكونها في موقع البيان فصلت ولم تعطف، وفائدة الإجمال ثم التفصيل تقرير الحكم لتأكيده، ولما في جملة {لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ} من إدخال الرَّوع على المشركين بهذا التأكيد.
وسماه وعداً نظراً لحال المؤمنين الذي هو أهم هنا. وهو أيضاً وعيد للمشركين بخذلان أشياعهم ومن يفتخرون بمماثلة دِينهم.
وموقع الاستدراك في قوله {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} هو ما اقتضاه الإجمال. وتفصيله من كون ذلك أمراً لا ارتياب فيه وأنه وعد الله الصادق الوعد القادر على نصر المغلوب فيجعله غالباً، فاستدرك بأن مراهنة المشركين على عدم وقوعه نشأت عن قصور عقولهم فأحالوا أن تكون للروم بعد ضعفهم دَولة على الفرس الذين قهروهم في زمن قصير هو بضع سنين ولم يعلموا أن ما قدره الله أعظم.
فالمراد ب {أكثر الناس} ابتداءً المشركون لأنهم سمعوا الوعد وراهنوا على عدم وقوعه. ويشمل المرادُ أيضاً كلَّ من كان يَعُد انتصار الروم على الفرس في مثل هذه المدة مستحيلاً، من رجال الدولة ورجال الحرب من الفرس الذين كانوا مزدهين بانتصارهم، ومن أهل الأمم الأخرى، ومن الروم أنفسهم، فلذلك عبر عن هذه الجمهرة ب {أكْثَر النَّاس} بصيغة التفضيل. والتعريف في {النَّاس} للاستغراق...