{ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } أي : بشيرًا بالثواب العاجل والآجل ، ونذيرًا بالعقاب العاجل والآجل ، وذكر تفصيلهما ، وذكر الأسباب والأوصاف التي تحصل بها البشارة والنذارة ، وهذه الأوصاف للكتاب ، مما يوجب أن يُتَلقَّى بالقبول ، والإذعان ، والإيمان ، والعمل به ، ولكن أعرض أكثر الخلق عنه إعراض المستكبرين ، { فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } له سماع قبول وإجابة ، وإن كانوا قد سمعوه سماعًا ، تقوم عليهم به الحجة الشرعية .
يبشر المؤمنين العاملين ، وينذر المكذبين المسيئين ، ويبين أسباب البشرى وأسباب الإنذار ، بأسلوبه العربي المبين . لقوم لغتهم العربية . ولكن أكثرهم مع هذا لم يقبل ويستجب :
( فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون )
وقد كانوا يعرضون فلا يسمعون فعلاً ، ويتحامون أن يعرضوا قلوبهم لتأثير هذا القرآن القاهر . وكانوا يحضون الجماهير على عدم السماع كما سيجيء قولهم : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) . .
وأحياناً كانوا يسمعون ، وكأنهم لا يسمعون ، لأنهم يقاومون أثر هذا القرآن في نفوسهم ؛ فكأنهم صم لا يسمعون !
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
القرآن {بشيرا} بالجنة، {ونذيرا} من النار.
{فأعرض أكثرهم} يعني أكثر أهل مكة عن القرآن، {فهم لا يسمعون} الإيمان به.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ" يقول تعالى ذكره: هذا القرآن تنزيل من عند الرحمن الرحيم نزّله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
"كِتابٌ فُصّلَتْ آياتُهُ "يقول: كتاب بينت آياته...
وقوله: "قُرآنا عَرَبِيّا" يقول تعالى ذكره: فُصلت آياته هكذا...
وقوله: "لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي، بشيرا لهم يبشرهم إن هم آمنوا به، وعملوا بما أنزل فيه من حدود الله وفرائضه بالجنة، ونذيرا يقول ومنذرا من كذّب به ولم يعمل بما فيه بأمر الله في عاجل الدنيا، وخلود الأبد في نار جهنم في آجل الآخرة.
وقوله: "فَأعْرَضَ أكْثَرُهُمْ" يقول تعالى ذكره: فاستكبر عن الإصغاء له وتدبر ما فيه من حجج الله، وأعرض عنه أكثر هؤلاء القوم الذين أنزل هذا القرآن بشيرا لهم ونذيرا، وهم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ" يقول: فهم لا يصغون له فيسمعوا إعراضا عنه واستكبارا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{بَشِيرًا وَنَذِيرًا} البِشارة والنذارة، هي ما تكون العاقبة من الخير والشر، أو يقال: البشارة، هي الدعاء إلى ما يوجب لهم من الحسنات والخيرات في العاقبة.
والنذارة، هي الزجر عما يوجب لهم من السيئات والمكروهات في العاقبة. فصار معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل داعيا إلى الحسنات وزاجرا عن السيئات.
{فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} يحتمل إعراضهم عنه وجهين:
أحدهما: أي أعرضوا عن التفكّر فيه والتأمّل.
والثاني: أعرضوا عن اتباعه بعد ما تأمّلوا فيه وتفكّروا وتبيّنوا أنه حق وأنه من الله تعالى، لكنهم تركوا اتّباعه عنادا منهم ومكابرة حذرا من ذهاب الرئاسة.
{فهم لا يسمعون} أي لا يجيبون على كل ما ذكرناه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} لا يقبلون ولا يطيعون، من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي، ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه، فكأنه لم يسمعه...
قوله تعالى: {فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون} يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله؛ وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه؛ لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب.
وكونه {بشيرا ونذيرا} يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات؛ لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات، وقد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم، وذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله، ولا ضال إلا من أضله الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان حال الإنسان إن مال إلى جانب الخوف الهلع أو إلى جانب الرجاء البطر، فكان لا يصلحه إلا الاعتدال، بالتوسط الموصل إلى الكمال، بما يكون لطبعه بمنزلة حفظ الصحة ودفع المرض لبدنه، قال واصفاً ل "قرآناً "{بشيراً} أي لمن اتبع {ونذيراً} أي لمن امتنع فانقطع.
ولما كانت عادتهم دوام الاحتياط في كل بشارة ونذارة بأمر دنيوي، سبب عن هذا مخالفتهم لعادتهم في ترك الحزم بالجزم بالإعراض فقال: {فأعرض أكثرهم} أي عن تجويز شيء من بشائره أو نذائره {فهم} لذلك {لا يسمعون} أي يفعلون فعل من لا يسمع فهم لا يقبلون شيئاً مما دعا إليه وحث عليه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البشير: اسم للمبشر وهو المخبر بخبر يسر المخبَر. والنذير: المخبر بأمر مَخُوف، شبه القرآن بالبشير فيما اشتمل عليه من الآيات المبشرة للمؤمنين الصالحين، وبالنذير فيما فيه من الوعيد للكافرين وأهل المعاصي، فالكلام تشبيه بليغ.
وليس: {بشيراً} أو {نذيراً} اسمي فاعل لأنه لو أريد ذلك لقيل: مُبشراً ومُنذراً. والجمع بين: {بشيراً} و {نَذِيراً} من قبيل محسن الطِّبَاق. وانتصب {بشيراً} على أنه حال ثانية من {كتاب} أو صفة ل {قرآناً،} وصفة الحال في معنى الحال، فالأوْلى كونه حالاً ثانية.
وجيء بقوله: {نذيراً} معطوفاً بالواو للتنبيه على اختلاف موقع كل من الحالين فهو بشير لقوم وهم الذين اتبعوه ونذير لآخرين، وهم المعرضون عنه، وليس هو جامعاً بين البشارة والنذارة لطائفة واحدة فالواو هنا كالواو في قوله: {ثيبات وأبكارا}
[التحريم: 5] بعد قوله: {مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات} [التحريم: 5]...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الصفتان الرابعة والخامسة تكشفان عن عمق التأثير التربوي للقرآن الكريم، عن طريق أسلوب الإنذار والوعيد والتهديد والترغيب، فآية تقوم بتشويق الصالحين والمحسنين بحيث أنّ النفس الإنسانية تكاد تطير وتتماوج في أشواق الملكوت والرحمة. وأحياناً تقوم آية بالتهديد والإنذار بشكل تقشعر منه الأبدان لهول الصورة وعنف المشهد.
إنّ هذين الأصلين التربّويين (الترغيب والتهديد) متلازمان في الآيات القرآنية ومترابطان في أُسلوبه. ومع ذلك فإنّ المتعصبين المعاندين لا يتفاعلون مع حقائق الكتاب المنزل، وكأنّهم لا يسمعونها أبداً بالرغم من السلامة الظاهرية لأجهزتهم السمعية، إنّهم في الواقع يفتقدون لروح السماع وإدراك الحقائق، ووعي محتويات النذير والوعيد القرآني...