مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَشِيرٗا وَنَذِيرٗا فَأَعۡرَضَ أَكۡثَرُهُمۡ فَهُمۡ لَا يَسۡمَعُونَ} (4)

المسألة الثامنة : قوله تعالى : { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه ، لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب ، وكونه { قرءانا عربيا } مفصلا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان ، وكونه { بشيرا ونذيرا } يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات ، لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات ، وقد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به ، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم ، وذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله ، ولا ضال إلا من أضله الله .

واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولا يسمعونه ، بين أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء ( أحدها ) أنهم قالوا { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء ، والكنان هو الذي يجعل فيه السهام ( وثانيها ) قولهم { وفي آذاننا وقر } أي صمم وثقل من استماع قولك ( وثالثها ) قولهم { ومن بيننا وبينك حجاب } والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة { من } في قوله { ومن بيننا } أنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجابا حصل وسط الجهتين ، وأما بزيادة لفظ { من } كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب ، وما بقي جزء منها فارغا عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب ، هكذا ذكره صاحب «الكشاف » وهو في غاية الحسن .

واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة ، وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف ، فلما بين أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب .

واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاما لم يفهم معناه كما ينبغي ، وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سببا للوقوف على دقائق أحوال ذلك المرئي ، وذلك المدرك والشاعر هو النفس ، وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء .