وتؤثرونها على الآخرة ، فتذرون العمل لها ، لأن الدنيا نعيمها ولذاتها عاجلة ، والإنسان مولع بحب العاجل ، والآخرة متأخر ما فيها من النعيم المقيم ، فلذلك غفلتم عنها وتركتموها ، كأنكم لم تخلقوا لها ، وكأن هذه الدار هي دار القرار ، التي تبذل فيها نفائس الأعمار ، ويسعى لها آناء الليل والنهار ، وبهذا انقلبت عليكم الحقيقة ، وحصل من الخسار ما حصل . فلو آثرتم الآخرة على الدنيا ، ونظرتم للعواقب نظر البصير العاقل لأنجحتم ، وربحتم ربحا لا خسار معه ، وفزتم فوزا لا شقاء يصحبه .
ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة ، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال ، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال ؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها . ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع :
( كلا . بل تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة ؛ ووجوه يومئذ باسرة ، تظن أن يفعل بها فاقرة ) . .
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع . ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها - وهو الإيحاء المقصود - فإن هناك تناسقا بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق ، وقول الله تعالى لرسوله [ صلى الله عليه وسلم ]( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) . . فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا . . وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق !
يقول تعالى ذكره لعباده المخاطبين بهذا القرآن المؤثرين زينة الحياة الدنيا على الاَخرة : ليس الأمر كما تقولون أيها الناس من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم ، ولا تجازون بأعمالكم ، لكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم الدنيا العاجلة ، وإيثاركم شهواتها على آجل الاَخرة ونعيمها ، فأنتم تؤمنون بالعاجلة ، وتكذّبون بالاَجلة ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : كَلاّ بَلْ تُحِبّونَ العاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاَخِرَةَ اختار أكثر الناس العاجلة ، إلاّ من رحم الله وعصم .
وقرأ الجمهور { تحبون } و { تذرون } بتاء فوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في موعظة المشركين مُواجَهة بالتفريع لأن ذلك أبلغ فيه . وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بياء تحتية على نسق ضمائر الغيبة السابقة ، والضمير عائد إلى { الإنسان } في قوله : { بل الإِنسان على نفسه بصيرة } [ القيامة : 14 ] جاء ضمير جمع لأن الإِنسان مراد به الناس المشركون ، وفي قوله : { بل تحبون } ما يرشد إلى تحقيق معنى الكسب الذي وُفق إلى بيانه الشيخ أبو الحسن الأشعري وهو الميل والمحبة للفعل أو الترك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتذرون} عمل {الآخرة} يقول: تختارون الحياة الدنيا على الآخرة، فلا تطلبونها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لعباده المخاطبين بهذا القرآن المؤثرين زينة الحياة الدنيا على الاَخرة: ليس الأمر كما تقولون أيها الناس من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم، ولا تجازون بأعمالكم، لكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم الدنيا العاجلة، وإيثاركم شهواتها على آجل الاَخرة ونعيمها، فأنتم تؤمنون بالعاجلة، وتكذّبون بالآجلة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 20]
{كلا بل تحبون العاجلة} {وتذرون الآخرة} يقول: {كلا} ردع ومنع عما سبق منهم وفي قوله: {بل تحبون العاجلة} إبانة أن الذي حملهم على ما هم فيه من الحسبان أن العظام، لا تجمع، وأن البعث، ليس بشيء، حبهم العاجلة؛ وذلك أنهم أولعوا بالعاجلة، وأحبوها حبا أنساهم الإيمان بالآخرة والنظر في الحجج والبراهين التي لو أمعنوا النظر فيها أدّتهم إلى القول بالبعث، حتى صاروا إلى ألا يرجوا الآخرة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 20]
رجوع إلى مخاطبة قريش، فرد عليهم وعلى أقوالهم في رد الشريعة بقوله: {كلا} ليس ذلك كما تقولون. وإنما أنتم قوم قد غلبتكم الدنيا بشهواتها، فأنتم تحبونها حباً تتركون معه الآخرة والنظر في أمرها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولأجل تضارر الدارين وكونهم يحبون العاجلة قال: {وتذرون} أي يتركون على أي وجه كان ولو أنه غير مستحسن {الآخرة} لانهم يبغضونها لارتكابهم ما يضربهم فيها.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة} على تعميمِ الخطابِ للكُلِّ أيْ بَلْ أنتُم يا بنِي آدمٍ لما خلقتُم مِنْ عجلٍ وجبلتُم عليهِ تعجلونَ في كُلِّ شيءٍ ولذلكَ تحبونَ العاجلةَ وتذرونَ الآخرةَ وقيلَ: كَلاَّ ردعٌ للإنسانِ عنْ الاغترارِ بالعاجلِ فيكونُ جمعُ الضميرِ في الفعلينِ باعتبارِ مَعْنى الجنسِ ويؤيدُه قراءةُ الفعلينِ على صيغةِ الغيبةِ.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{وتذرون الآخرة} أي بالإعراض عن الأعمال التي تورث منازلها، أو تنسون الآخرة ووعيدها وهول حسابها وجزائها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 20]
ثم يمضي سياق السورة في عرض مشاهد القيامة وما يكون فيها من شأن النفس اللوامة، فيذكرهم بحقيقة نفوسهم وما يعتلج فيها من حب للدنيا وانشغال، ومن إهمال للآخرة وقلة احتفال؛ ويواجههم بموقفهم في الآخرة بعد هذا وما ينتهي إليه حالهم فيها. ويعرض لهم هذا الموقف في مشهد حي قوي الإيحاء عميق الإيقاع:
(كلا. بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة. وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة؛ ووجوه يومئذ باسرة، تظن أن يفعل بها فاقرة)..
وأول ما يلحظ من ناحية التناسق في السياق هو تسمية الدنيا بالعاجلة في هذا الموضع. ففضلا عن إيحاء اللفظ بقصر هذه الحياة وسرعة انقضائها -وهو الإيحاء المقصود- فإن هناك تناسقا بين ظل اللفظ وظل الموقف السابق المعترض في السياق، وقول الله تعالى لرسوله [صلى الله عليه وسلم] (لا تحرك به لسانك لتعجل به).. فهذا التحريك وهذه العجلة هي أحد ظلال السمة البشرية في الحياة الدنيا.. وهو تناسق في الحس لطيف دقيق يلحظه التعبير القرآني في الطريق!
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولهذا السبب تركتم الآخرة (وتذرون الآخرة).
إنّ الشك في قدرة الله تعالى وجمع العظام وهي رميم ليس هو الدافع لإنكار المعاد، بل إنّ حبّكم الشديد للدنيا والشهوات والميول المغرية هي التي تدفعكم إلى رفع الموانع عن طريق ملذاتكم، وبما أنّ المعاد والشريعة الإلهية توجد موانع وحدوداً كثيرة على هذا الطريق، لذا تتمسكون بإنكار أصل الموضوع، وتتركون الآخرة بتمامها.
وكما ذكرنا سابقاً أنَّ إحدى العلل المهمّة للميول إلى المادية وإنكار المبدأ والمعاد هو كسب الحرية المطلقة للانجراف وراء الشهوات واللذات والذنوب، ولا ينحصر هذا في العهود السابقة، بل يتجلّى هذا المعنى في عالم اليوم بصورة أوضح.
وهاتان الآيتان تؤكّدان ما ورد في الآيات السابقة والتي قال فيها تعالى شأنه: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) وقال أيضاً: (يسأل أيّان يوم القيامة).