{ 95 - 97 } { وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يحذر تعالى عباده من نقض العهود والأيمان لأجل متاع الدنيا وحطامها فقال : { وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } تنالونه بالنقض وعدم الوفاء . { إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ } من الثواب العاجل والآجل لمن آثر رضاه ، وأوفى بما عاهد عليه الله ، { هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } من حطام الدنيا الزائلة { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنّمَا عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكّديها بأيمانكم ، تطلبون بنقضكم ذلك عرضا من الدنيا قليلاً ، ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به يثبكم الله على الوفاء به ، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك هو خير لكم إن كنتم تعلمون فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما : الثمن القليل الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا ، والآخر : الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به . ثم بين تعالى ذكره فَرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين ، فقال : ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا وإن كَثُر فنافدٌ فانٍ ، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فان ، فلما عنده فاعملوا ، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا . وقوله : { وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ } ، يقول تعالى ذكره : وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السرّاء والضرّاء ، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ومسارعتهم في رضاه ، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها ، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله .
{ ولا تشتروا بعهد الله } ، ولا تستبدلوا عهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم . { ثمنا قليلا } ، عرضا يسيرا ، وهو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد . { إن ما عند الله } ، من النصر والتغنيم في الدنيا والثواب في الآخرة . { هو خير لكم } مما يعدونكم . { إن كنتم تعلمون } ، إن كنتم من أهل العلم والتمييز .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم وعظهم، فقال سبحانه: {ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا}، يقول: ولا تبيعوا الوفاء بالعهد فتنقضونه بعرض يسير من الدنيا،
{إنما عند الله} من الثواب لمن وفى منكم بالعهد،
{هو خير لكم} من العاجل، {إن كنتم تعلمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تنقضوا عهودكم أيها الناس وعقودكم التي عاقدتموها من عاقدتم مؤكّديها بأيمانكم، تطلبون بنقضكم ذلك عرضا من الدنيا قليلاً، ولكن أوفوا بعهد الله الذي أمركم بالوفاء به يثبكم الله على الوفاء به، فإن ما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك هو خير لكم إن كنتم تعلمون فضل ما بين العِوَضين اللذين أحدهما: الثمن القليل الذي تشترون بنقض عهد الله في الدنيا، والآخر: الثواب الجزيل في الآخرة على الوفاء به. ثم بين تعالى ذكره فَرْق ما بين العِوَضين وفضل ما بين الثوابين، فقال: ما عندكم أيها الناس مما تتملكونه في الدنيا وإن كَثُر فنافدٌ فانٍ، وما عند الله لمن أوفى بعهده وأطاعه من الخيرات باق غير فان، فلما عنده فاعملوا، وعلى الباقي الذي لا يفنى فاحرصوا. وقوله: {وَلَنَجْزِيَنّ الّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ بأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}، يقول تعالى ذكره: وليثيبنّ الله الذين صبروا على طاعتهم إياه في السرّاء والضرّاء، ثوابهم يوم القيامة على صبرهم عليها ومسارعتهم في رضاه، بأحسن ما كانوا يعملُون من الأعمال دون أسوئها، وليغفرنّ الله لهم سيئها بفضله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا}، قال بعضهم: عهد الله دين الله. وقال بعضهم: عهد الله الذي عهد إليهم. ويحتمل عهد الله ما أعطوا من العهد والأيمان، أي: (لا) تنقضوها بشيء يسير. {إنما عند الله هو خير لكم}، دائم باق، وهذا زائل فان، أو ما يجزي بوفاء ما عهد خير لكم من هذا، أي: (ما) يجزكم بوفاء ما ذكر من العهد {خير لكم} من غيره، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان قوماً ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان -لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين، وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد- أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله، {وَلاَ تَشْتَرُواْ}، ولا تستبدلوا {بِعَهْدِ الله} وبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثَمَناً قَلِيلاً}، عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا.
{إِنَّمَا عِنْدَ الله} من إظهاركم وتغنيمكم، ومن ثواب الآخرة {خَيْرٌ لَّكُمْ}.
يعني أنكم وإن وجدتم على نقض عهد الإسلام خيرا من خيرات الدنيا، فلا تلتفتوا إليه، لأن الذي أعده الله تعالى على البقاء على الإسلام خير وأفضل وأكمل مما يجدونه في الدنيا على نقض عهد الإسلام إن كنتم تعلمون التفاوت بين خيرات الدنيا وبين خيرات الآخرة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وإنما كان قليلا وإن كثر؛ لأنه مما يزول، فهو على التحقيق قليل... فبين الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتحول، وما عند الله من مواهب فضله ونعيم جنته ثابت لا يزول لمن وفّى بالعهد وثبت على العقد...
"ولنجزين الذين صبروا"، أي: على الإسلام والطاعات وعن المعاصي. "أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"، أي: من الطاعات، وجعلها أحسن؛ لأن ما عداها من الحسن مباح، والجزاء إنما يكون على الطاعات من حيث الوعد من الله...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ولو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا خاصاً بالأيمان، أتبعه النهي عن الخيانة في عموم العهد تأكيداً بعد تأكيد؛ للدلالة على عظيم النقض فقال تعالى: {ولا تشتروا}، أي: تكلفوا أنفسكم لجاجاً وتركاً للنظر في العواقب أن تأخذوا وتستبدلوا {بعهد الله}، أي: الذي له الكمال كله، {ثمناً قليلاً}، أي: من حطام الدنيا وإن كنتم ترونه كثيراً، ثم علل قلته بقوله تعالى: {إنما عند الله}، أي: الذي له الجلال والإكرام من ثواب الدارين {هو خير لكم}، ولا يعدل عن الخير إلى ما دونه إلا لجوج ناقص العقل؛ ثم شرط علم خيريته بكونهم من ذوي العلم فقال تعالى: {إن كنتم}، أي: بجبلاتكم {تعلمون}، أي: ممن يتجدد له علم، ولم تكونوا في عداد البهائم، فصار العهد الشامل للأيمان مبدوءاً في هذه الآيات بالأمر بالوفاء به ومختوماً بالنهي عن نقضه، والأيمان التي هي أخص منه وسط بين الأمر والنهي المتعلقين به، فصار الحث عليها على غاية من التأكيد عظمة ورتبة من التوثيق جليلة،
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الثمن القليل هو ما يعدهم به المشركون إن رجعوا عن الإسلام من مال وهناء عيش.
وهذا نهي عن نقض عهد الإسلام لأجل ما فاتهم بدخولهم في الإسلام من منافع عند قوم الشّرك، وبهذا الاعتبار عطفت هذه الجملة على جملة {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} [سورة النحل: 91] وعلى جملة {وَلاَ تتخذوا أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} [سورة النحل: 94] لأن كل جملة منها تلتفت إلى غرض خاص مما قد يبعث على النّقض.
والثّمن: العوض الذي يأخذه المعاوض. وتقدّم الكلام على نظير هذا عند قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإيّاي فاتّقون} في سورة البقرة (41). وذكرنا هناك أن {قليلاً} صفة كاشفة وليست مقيدة، أي أن كل عوض يؤخذ عن نقض عهد الله هو عوض قليل ولو كان أعظم المكتسبات.
وجملة {إنما عند الله هو خير لكم} تعليل للنّهي باعتبار وصف عوض الاشتراء المنهي عنه بالقلّة، فإن ما عند الله هو خير من كل ثمن وإن عظم قدره.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{ثمنا قليلا} قد وصف سبحانه ما يترك لأجله العهد بأنه ثمن قليل مهما يكن مقداره؛ لأن ما يضيع بسبب ترك العهد من فقد الثقة والشك في العهود والمواثيق أمر كبير لا يقدر بقدر؛ لأنه يكون الوهن والخزي والضياع...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمن الحياة الطيبة: جاءت الآية الأُولى من هذه الآيات لتؤكّد على قبح نقض العهد مرّة أُخرى، ولتبيّن عذراً آخراً من أعذار نقض العهد الواهية، فحيث تطرقت الآيات السابقة إلى عذر الخوف من كثرة الأعداء تأتي هذه الآية لتطرح ما للمصلحة الشخصية المادية من أثر سلبي على حياة الإِنسان. ولهذا تقول:"ولا تشتروا بعهد اللّه ثمناً قليلا". أيْ: إِنّ قيمة الوفاء بعهد اللّه لا تدانيها قيمة، ولو استلمتم زمام ملك الدنيا بأسرها فإِنّه لا يساوي قيمة لحظة واحدة من الوفاء بعهد اللّه...