قوله تعالى : { وإذ أنجيناكم } ، قرأ ابن عامر { وإذ أنجاكم } وكذلك هو في مصاحف أهل الشام .
قوله تعالى : { من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم } قرأ نافع يقتلون خفيفةً التاء من القتل ، وقرأ الآخرون بالتشديد على التكثير من التقتيل .
قوله تعالى : { ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } .
ثم ذكرهم بما امتن اللّه به عليهم فقال : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } أي : من فرعون وآله { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي : يوجهون إليكم من العذاب أسوأه ، وهو أنهم كانوا { يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ } النجاة من عذابهم { بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي : نعمة جليلة ، ومنحة جزيلة ، أو : وفي ذلك العذاب الصادر منهم لكم بلاء من ربكم عليكم عظيم ، فلما ذكرهم موسى ووعظهم انتهوا عن ذلك .
ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمة إنجائهم من العذاب والتنكيل ، ليبتليهم أيشكرون أم يكفرون ، فقال تعالى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } .
" إذ " بمعنى وقت ، وهى مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى : اذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون . والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث .
وآل الرجل : أهله وخاصته وأتباعه . ويطلق غالباً على أولى الشأن والخطر من الناس ، فلا يقال آل الحجام أو الاسكاف .
و { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } يبغون لكم أشد العذاب وأفضعه من السوم وهو مطلق الذهاب ، أو الذهاب في ابتغاء الشىء . يقال : سامت الابل فهى سائمة ، أى ذهبت إلى المرعى . وسام السلعة ، إذا طلبها وابتغاها .
والسوء - بالضم - كل ما يحزن الإنسان ويغمه من الأمور الدنيوية أو الأخروية . ويستحيون : أى يستبقون . يقال : استحياه أى : استبقاه ، وأصله : طلب له الحياة والبقاء .
والبلاء : الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر .
والمعنى : واذكروا يا بنى إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وتشكروا الله على نعمه وقت أن أنجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه ، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم ، ويستبقون نفوس نسائكم ليستخدموهن ويستذلوهن .
وفى ذلكم العذاب وفى النجاة منه امتحان لكم لتشكروا الله على نعمه ، ولتقعلوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الاذلال في الدنيا ، والعذاب في الأخرى .
وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه ، مع أنه هو الآمر بتعذيب بنى إسرائيل ، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له على إذاقتهم سوء العذاب ، وفى إنزال ألوان الأذلال بهم .
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لبنى إسرائيل - مع أنه في ظاهرة نعمة لهم - لأن هذا الابقاء على النساء كان المقصود من الاعتداء على أعراضهن ، واستعمالهن في شتى أنواع الخدمة ، وإذلالهن بالاسترقاق ، فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل ؛ وعذاب أليم ، تأباه النفوس الكريمة ، والطباع الحرة الأبية .
قال الامام الرازى ما ملخصه : في قتل الذكور دون الإناث مضرة م وجوه : أحدها : أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال ، وذلك يقضى انقطاع النسل ، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك ، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا .
ثانيها : أن هلاك الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة .
فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها الجرال . لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد .
ثالثها : إن قتل الولد عقب الحمل الطويل ، وتحمل الكد ، والرجاء القوى في الانتفاع به من أعظم العذاب . فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة .
رابعاً : أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهن ، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات للأعداء . وذلك نهاية الذل والهوان .
وقد رجح كثير من المفسدين أن المراد بالأبناء هنا الأطفال لا البالغين ، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك ، ولأن قتل الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشاقة والحقيرة ، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح .
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال ، لا الأطفال ، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء ، والنساء هن البالغات .
والذى نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا ، ولأنه أتم في إظهار نعمة الانجاء ، حيث كان آل فرعون يقتلون الصغار قطعاً للنسل ، ويسترقون الأمهات استعباداً لهن ، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج ، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد ردت على بنى إسرائيل فيما طلبوا أبلغ رد وأحكمه ، ووصفتهم بما هم أهله من سوء تدبير ، وسفاهة تفكير . فقد بدأت بإثبات جهلهم بربهم وبأنفسهم ، حيث طلبوا من نبيهم أن يجعل لهم إلهاً كما لغيرهم آلهة ، ثم ثنت بإظهار فساد ما طلبوه في ذاته ، لأن مصيره إلى الزوال والهلاك ، وما كان كذلك لا يصلح أن يكون إلهاً ، ثم بينت بعد ذلك بأن العبادة لغير الله لا تجوز بأى حال ، لأنه هو وحده صاحب الخلق والأمر ، ثم ذكرتهم في ختامها بوجوه النعم التي أسبغها الله عليهم ، لتشعرهم بأن ما طلبوه من نبيهم ، هو من قبيل مقابلة الاحسان بالجحود والنكران ، ولتحملهم على أن يتدقبروا أمرهم ، ويراجعوا أنفسهم ، ويتوبوا إلى خالقهم توبة صادقة نصوحا .
من تتمة كلام موسى عليه السلام كما يقتضيه السياق ، ويعضده قراءة ابن عامر : { واذ أنجاكم } والمعنى : أأبتغي لكم إلاهاً غير الله في حال أنه فضلكم على العالمين ، وفي زمان أنجاكم فيه من آل فرعون بواسطتي ، فابتغاء إلاه غيره كفران لنعمته ، فضمير المتكلم المشارَك يعود إلى الله وموسى ، ومعاده يدل عليه قوله : { أغير الله أبغيكم إلاهاً } [ الأعراف : 140 ] .
ويجوز أن يكون هذا امْتناناً من الله اعترضه بين القصة وعدَةِ موسى عليه السلام انتقالاً من الخبر والعبرة إلى النعمة والمنة ، فيكون الضمير ضَمير تعظيم ، وقرأ الجمهور : { أنجيناكم } بنون المتكلم المشارك ، وقرأه ابن عامر : { وإذ أنجاكم } على إعادة الضمير إلى الله في قوله : { أغير الله أبغيكم إلاهاً } [ الأعراف : 140 ] ، وكذلك هو مرسوم في مصحف الشام فيكون من كلام موسى وبمجموع القراءتين يحصُل المعنيان .
و { إذ } اسم زمان ، وهو مفعول به لفعل محذوف تقديره : واذكروا .
واختار الطبري وجماعة أن يكون قوله : { وإذ أنجيناكم } خطاباً لليهود الموجودين في زمن محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ابتداء خطاب افتتح بكلمة ( إذ ) ، والتعريض بتذكير المشركين من العرب قد انتهى عند قوله : { وهو فضلكم على العالمين } [ الأعراف : 140 ] وسورة الأعراف مكية ولم يكن في المكي من القرآن هو مجادلة مع اليهود .
وقوله : { يسومونكم سوء العذاب } إلى آخر الآية تقدم تفسير مشابهتها في سورة البقرة .