أما الصفة الثالثة من صفاتهم فقد بينها - سبحانه - بقوله : { والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } .
ويرى أكثر العلماء : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة الأموال . قالوا : لأن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة ، وما فرض بعد ذلك فى السنة الثانية من الهجرة هو مقاديرها ، ومصارفها ، وتفاصيل أحكامها أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يخرجون زكاة أموالهم عن طيب نفس .
ويرى بعض العلماء : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة النفس . أى : تطهيرها من الآثام والمعاص . فهى كقوله - تعالى - { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين ، أنهم يفعلون ما يطهر نفوسهم ويزكيها .
قال ابن كثير رحمه الله : ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة لنفوس وزكاة الأموال ، فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذى يتعاطى هذا وهذا " .
وقوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } : الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال ، مع أن هذه [ الآية ]{[20462]} مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة . والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النَّصَب والمقادير الخاصة ، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة ، كما قال تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] .
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا : زكاة النفس من الشرك والدنس ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 ، 10 ] ، وكقوله : { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 ، 7 ] ، على أحد القولين في تفسيرها .
وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ؛ فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا ، والله أعلم .
أصل الزكاة أنها اسم مصدر ( زكَّى ) المشدّد ، إذا طهَّرَ النفس من المذمات . ثم أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازاً لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي . فأطلق اسم المُسَبَّب على السبب . وأصله قوله تعالى : { خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } [ التوبة : 103 ] ، وأطلقت على نفس المال المنفَق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب { فاعلون } المقتضي أن الزكاة مفعول . وأما المصدر فلا يكون مفعولاً به لفعل من مادة ( ف . ع . ل ) لأن صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني عن الإتيان بفعل مبْهم ونصببِ مصدره على المفعوليَّة به . فلو قال أحد : فعلت مشياً ، إذا أراد أن يقول : مَشَيْتُ ، كان خارجاً عن تركيب العربية ولو كان مفيداً ، ولو قال أحد : فعلت ممَّا تريده ، لصح التركيب قال تعالى : { مَن فعلَ هذا بآلهتنا } [ الأنبياء : 59 ] ، أي هذا المشاهَد من الكَسْر والحطم ، أي هذا الحاصل بالمصدر . وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غَيْبَةِ فاعله .
والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء ، فهو كقوله { ويؤتون الزكاة } [ المائدة : 55 ] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة .
وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو { فاعلون } لأن مادة ( ف ع ل ) مشتهرة في إسداء المعروف ، واشتق منها الفَعال بفتح الفاء ، قال محمد بن بشير الخارجي :
إن تنفق المال أو تكلَفْ مساعيَه *** يَشْقُقْ عليك وتفعل دون ما فعلا
وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت :
المطعمون الطعام في السَّنَة الأز *** مة والفاعلون للزكوات
أنشده في « الكشاف » . وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلاّ من مصطلحات القرآن ، فلعل البيت مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء . قال ابن قتيبة في كتاب « الشعر والشعراء » « وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب » .
واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعيَّة وبالتأخير عن معموله .
وقال أبو مسلم والراغب : اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس . ومعنى { فاعلون } فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول { فاعلون } بدلالة علته عليه .
وفي « الكشاف » أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي ، أي إعطاء الزكاة وهو الذي يحسن أن يتعلق ب { فاعلون } لأنه ما من مصدر إلاّ ويعبر عن معناه بمادة فَعَلَ فيقال للضارب : فَاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل . وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلَّب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوّز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف ، وكلا الاعتبارين غير ملتزَم .
وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن ، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعتَ آنفاً .
وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال . والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين هم لزكاة أموالهم التي فرضها الله عليهم فيها مؤدّون، وفعلهم الذي وصفوا به هو أداؤهموها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
تحتمل الزكاة الزكاةَ التي بها تزكوا أنفسهم عند الله، وجائز أن تكون الزكاة المعروفة المعهودة، أخبر أنهم فاعلون ذلك مؤدون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"والذين هم للزكاة فاعلون" أي يؤدون ما يجب عليهم في أموالهم من الصدقات،وسميت زكاة، لأنه يزكو بها المال عاجلا وآجلا.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ذهب الطبري وغيره إلى أنها الزكاة المفروضة في الأموال، وهذا بيِّن، ويحتمل اللفظ أن يريد ب «الزكاة» الفضائل كأنه أراد الأزكى من كل فعل، كما قال تعالى {خيراً منه زكاة وأقرب رحماً} [الكهف: 81].
أحدهما: قول أبي مسلم: أن فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي، كقوله: {قد أفلح من تزكى}... ومن جملته ما يخرج من حق المال، وإنما سمى بذلك لأنها تطهر من الذنوب لقوله تعالى: {تطهرهم وتزكيهم بها}.
والثاني: وهو قول الأكثرين أنه الحق الواجب في الأموال خاصة، وهذا هو الأقرب.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
ولفظ {فاعلون} يدل على المداومة بخلاف «مؤدون».
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه [الآية] مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النَّصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حصَادِهِ} [الأنعام: 141]. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا: زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، وكقوله: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6، 7]، على أحد القولين في تفسيرها. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال؛ فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا، والله أعلم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{والذين هُمْ للزكاة فاعلون} وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصَّلاة للدِّلالة على أنَّهم بلغوا الغاية القاصية من القيام بالطَّاعات البدنيَّةِ والماليَّةِ والتَّجنبِ عن المحرَّمات وسائرِ ما تُوجب المروءةُ اجتنابَه. وتوسيطُ حديث الإعراضِ بينهما لكمال مُلابسته بالخشوع في الصَّلاةِ.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي مؤدون لزكاة أموالهم، على اختلاف أجناس الأموال، مزكين لأنفسهم من أدناس الأخلاق ومساوئ الأعمال التي تزكو النفس بتركها وتجنبها، فأحسنوا في عبادة الخالق، في الخشوع في الصلاة، وأحسنوا إلى خلقه بأداء الزكاة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
بعد إقبالهم على الله، وانصرافهم عن اللغو في الحياة.. والزكاة طهارة للقلب والمال: طهارة للقلب من الشح، واستعلاء على حب الذات، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء. وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيبا حلالا، لا يتعلق به حق -إلا في حالات الضرورة- ولا تحوم حوله شبهة. وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعا، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكك والانحلال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أصل الزكاة أنها اسم مصدر (زكَّى) المشدّد، إذا طهَّرَ النفس من المذمات. ثم أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازاً، لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي، فأطلق اسم المُسَبَّب على السبب. وأصله قوله تعالى: {خُذْ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} [التوبة: 103]، وأطلقت على نفس المال المنفَق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب {فاعلون} المقتضي أن الزكاة مفعول...
والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء، فهو كقوله {ويؤتون الزكاة} [المائدة: 55] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة.
وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو {فاعلون} لأن مادة (ف ع ل) مشتهرة في إسداء المعروف...
وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ووصف كتاب الله العلامة الثالثة التي تميز المؤمنين المفلحين فقال: {والذين هم للزكاة فاعلون}، إشارة إلى أنهم لا يعرفون الشح والبخل، ولا يتأخرون عن إسعاف المحتاجين من إخوتهم في الدين أو إخوتهم في الإنسانية، بل يجودون بالموجود على كل محتاج في هذا الوجود، إيمانا منهم بأن المال مال الله، وأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، وهذا المعنى يؤكده قوله تعالى في آية أخرى: {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر: 9]. وكلمة "الزكاة "هنا واردة بمعناها الشرعي المفهوم في الإسلام، وهو الحق الواجب في المال بمختلف أنواعه، فقد كانت من الفرائض الأولى التي شرع أصلها بمكة ونزل بها الوحي في السور المكية، كما في هذه السورة وسورة الأنعام المكية أيضا، إذ قال تعالى في شأن الزكاة: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} [الآية: 141]. لكن إخراجها في العهد المكي كان موكولا إلى إيمان المومن وضميره الحي كيف شاء وبأي قدر شاء، فلما نزلت الآية المدنية، وقامت الدولة الإسلامية، وقع تحديد مقاديرها وأنصبتها وشروطها والجهات التي تصرف إليها في السنة الثانية من الهجرة، وأصبحت موردا من الموارد العامة لبيت مال المسلمين، وحقا ثابتا للمعسرين في ذمة الموسرين...
الزكاة أولا تطلق على معنى التطهير، كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها (103)} [التوبة]: لأن الغفلة قد تصيب الإنسان حال جمع المال، فيخالط ماله ما فيه شبهة مثلا، فيحتاج إلى تطهير، وتطهير المال يكون بالصدقة منه. والزكاة بمعنى النماء، فبعد أن تطهر المال تنميه وتزيده، كما جاء في قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها (9)} [الشمس]: يعني: نمى ملكة الخير فيها، ورقاها وصعدها بأن ينظر إلى العمل إن كان سينقص منك في الظاهر، إلا أنه سيجلب لك الخير فيما بعد، فترتقي بذلك ملكات الخير في نفسك... وكما أمرنا ربنا- تبارك وتعالى- بالخشوع في الصلاة أمرنا كذلك في الزكاة، فلم يقل: مؤدون. ولكن {فاعلون} وهذه من تربية مقامات العبادة في الإنسان، فأنت حين تصلي ينبغي أن تخشع وتخضع في صلاتك لله، وكذلك حين تزكي ترقي ملكة الخير في نفسك، فحين تعمل وتسعى لا تعمل على قدر حاجتك، وإنما على قدر طاقتك، فتأخذ من ثمرة سعيك حاجتك، وفي نيتك أن تخرج من الباقي زكاة مالك وصدقتك، فالزكاة- إذن- في بالك وفي نيتك بداية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأنهم يعيشون الإحساس بالمسؤولية أمام حالات حرمان الناس المادي في الواقع، ويشعرون بأن المال الذي يملكونه ليس امتيازاً خاصاً يعيشونه بشكل أناني، بل يمثل مسؤولية إنسانية في العطاء الذي يتضمن معنى العبادة لله، كونه تقرباً به إليه عبر رعاية المحرومين من عباده.. وبذلك، كانت الزكاة في التشريع وسيلة من وسائل تعميق المعنى الإنساني في شخصية المؤمنين، من أجل أن يرتبطوا عضوياً بحياة الآخرين من موقع الواجب، لا من موقع التفضل، ما يجعل للتكافل الاجتماعي في الإسلام ركيزة قوية ثابتة ممتدة ذات معنى إيماني عميق في شخصية المؤمن.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ما يراه بعض المفسّرين أمثال الفخر الرازي والآلوسي في «روح المعاني» والراغب الاصفهاني في مفرداته من أنّ الزكاة هنا تعني عمل الخير أو تزكية المال أو تطهير الروح، فبعيد، لأنّ القرآن المجيد كلّما ذكر الصلاة مع الزكاة يقصد بالزكاة الإنفاق المالي، ولو فسّرناه بغير هذا، فذلك يحتاج إلى قرينة واضحة لا توجد في هذه الآيات.