ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب ، والإيمان ببعضه فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ } توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار ، فاختاروا النار على العار ، فلهذا قال : { فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } بل هو باق على شدته ، ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات ، { وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } أي : يدفع عنهم مكروه .
ثم أكد - سبحانه - هذا الوعيد الشديد وبين علته فقال تعالى : { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } .
والمعنى : أولئك اليهود الذين فرقوا أحكام الله ، وباعوا دينهم بدنياهم ، وآثروا متاع الدنيا على نعيم الآخرة قد استحقوا غضب الله فلا يخفف عنهم العذاب يوم القيامة ، ولا يجدون من دون الله وليا ولا نصيرا .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود بنقضهم للعهد ، وإيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض ، فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين .
{ أُولََئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالاَخِرَةِ فَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : { أولئك الذين } أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب فيفادون أسراهم من اليهود ، ويكفرون ببعض ، فيقتلون من حرّم الله عليهم قتله من أهل ملتهم ، ويخرجون من داره من حرّم الله عليهم إخراجه من داره ، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم . فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم ، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها ، بالإيمان الذي كان يكون لهم به في الاَخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر ، الخلود في الجنان . وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالاَخرة لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها عوضا من نعيم الاَخرة الذي أعده الله للمؤمنين ، فجعل حظوظهم من نعيم الاَخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا . كما : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرُوا الحَياةَ الدّنْيَا بالاَخِرَةِ } : استحبوا قليل الدنيا على كثير الاَخرة .
قال أبو جعفر : ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من نعيم الاَخرة بتركهم طاعته ، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه ، لا حظّ لهم في نعيم الاَخرة ، وأن الذي لهم في الاَخرة العذاب غير مخفف عنهم فيها العذاب لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب هو الذي له حظ في نعيمها ، ولا حظ لهؤلاء لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم .
وأما قوله : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الاَخرة أحد فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله ، لا بقوّته ولا بشفاعته ولا غيرهما .
والقول في { اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } كالقول في : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدي } [ البقرة : 16 ] . والقول في { فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } قريب من القول في { ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } .
وموقع الفاء في قوله : { فلا يخفف عنهم العذاب } هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيراً يدفع عنه أو يخفف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {أولئك الذين اشتروا}، يعني: اختاروا
{الحياة الدنيا بالآخرة}... باعوا الآخرة بالدنيا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل.
{فلا يخفف عنهم العذاب} في الآخرة
{ولا هم ينصرون}: ولا هم يمنعون من العذاب...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{أولئك الذين}: أخبر عنهم أنهم يؤمنون ببعض الكتاب فيفادون أسراهم من اليهود، ويكفرون ببعض، فيقتلون من حرّم الله عليهم قتله من أهل ملتهم، ويخرجون من داره من حرّم الله عليهم إخراجه من داره، نقضا لعهد الله وميثاقه في التوراة إليهم. فأخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين اشتروا رياسة الحياة الدنيا على الضعفاء وأهل الجهل والغباء من أهل ملتهم، وابتاعوا المآكل الخسيسة الرديئة فيها بالإيمان الذي كان يكون لهم به في الاَخرة لو كانوا أتوا به مكان الكفر الخلود في الجنان. وإنما وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، لأنهم رضوا بالدنيا بكفرهم بالله فيها عوضا من نعيم الآخرة الذي أعده الله للمؤمنين، فجعل حظوظهم من نعيم الاَخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا...استحبوا قليل الدنيا على كثير الآخرة.
ثم أخبر الله جل ثناؤه أنهم إذْ باعوا حظوظهم من نعيم الآخرة بتركهم طاعته، وإيثارهم الكفر به والخسيس من الدنيا عليه، لا حظّ لهم في نعيم الاَخرة، وأن الذي لهم في الآخرة العذاب غير مخفف عنهم فيها العذاب لأن الذي يخفف عنه فيها من العذاب هو الذي له حظ في نعيمها، ولا حظ لهؤلاء لاشترائهم الذي كان في الدنيا ودنياهم بآخرتهم.
{وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ}: فإنه أخبر عنهم أنه لا ينصرهم في الآخرة أحد فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله، لا بقوّته ولا بشفاعته ولا غيرهما.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
جعل الله ترك الآخرة وأخذ الدنيا مع قدرتهم على التمسك بالآخرة بمنزلة من أخذها ثم باعها بالدنيا، وهذه النزعة صرفها مالك رحمه الله في فقه البيوع...
جعل الله ما أعرض اليهود عنه من الإيمان بما في كتبهم وما حصل في أيديهم من الكفر ولذات الدنيا كالبيع والشراء، وذلك من الله تعالى في نهاية الذم لهم لأن المغبون في البيع والشراء في الدنيا مذموم حتى يوصف بأنه تغير في عقله فبأن يذم مشتري متاع الدنيا بالآخرة أولى...
أما قوله تعالى: {فلا يخفف عنهم العذاب} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في دخول الفاء في قوله: {فلا يخفف} قولان، أحدهما: العطف على {اشتروا}...
المسألة الثانية: بعضهم حمل التخفيف على أنه لا ينقطع بل يدوم، لأنه لو انقطع لكان قد خف، وحمله آخرون على شدته لا على دوامه والأولى أن يقال: إن العذاب قد يخف بالانقطاع وقد يخف بالقلة في كل وقت أو في بعض الأوقات، فإذا وصف تعالى عذابهم بأنه لا يخفف اقتضى ذلك نفي جميع ما ذكرناه.
أما قوله تعالى: {ولا هم ينصرون}... [فالأكثرون] حملوه على نفي النصرة في الآخرة يعني أن أحدا لا يدفع هذا العذاب عنهم ولا هم ينصرون على من يريد عذابهم...لأنه تعالى جعل ذلك جزاء على صنيعهم، ولذلك قال: {فلا يخفف عنهم العذاب} وهذه الصفة لا تليق إلا بالآخرة، لأن عذاب الدنيا وإن حصل فيصير كالحدود التي تقام على المقصر ولأن الكفار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
نزلت في اليهود، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة.
[و] الشراء والبيع يقتضيان عوضاً ومعوّضاً أعياناً. فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء، إيثاراً للعاجل الفاني على الآجل الباقي، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل.
قال بعض أرباب المعاني: إن الدنيا: ما دنا من شهوات القلب، والآخرة: ما اتصلت برضا الرب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} أي: استحبوها على الآخرة واختاروها
{فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة
{وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي: وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي، ولا يجيرهم منه.
- فالأول اقتضى أن ذلك العذاب لا يرجى من فاعله شفقة على المفعول ولا تخفيفا عنه.
- والثاني اقتضى أنه لا يقدر أحد على استخلاص المفعول من ذلك العذاب ونصرته بوجه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب، والإيمان ببعضه فقال:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} توهموا أنهم إن لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار، فاختاروا النار على العار، فلهذا قال: {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} بل هو باق على شدته، ولا يحصل لهم راحة بوقت من الأوقات
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يلتفت إلى المسلمين وإلى البشرية جميعا، وهو يعلن حقيقتهم وحقيقة عملهم:
(أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة. فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون). وكذبوا إذن في دعواهم أن لن تمسهم النار إلا أياما معدودة.
وقصة شرائهم الحياة الدنيا بالآخرة هنا في هذه المناسبة: هي أن الدافع لهم على مخالفة ميثاقهم مع الله، هو استمساكهم بميثاقهم مع المشركين في حلف يقتضي مخالفة دينهم وكتابهم. فإن انقسامهم فريقين، وانضمامهم إلى حلفين، هي هي خطة إسرائيل التقليدية، في إمساك العصا من الوسط؛ والانضمام إلى المعسكرات المتطاحنة كلها من باب الاحتياط، لتحقيق بعض المغانم على أية حال؛ وضمان صوالح اليهود في النهاية سواء انتصر هذا المعسكر أم ذاك! وهي خطة من لا يثق بالله، ولا يستمسك بميثاقه، ويجعل اعتماده كله على الدهاء، ومواثيق الأرض، والاستنصار بالعباد لا برب العباد.
والإيمان يحرم على أهله الدخول في حلف يناقض ميثاقهم مع ربهم، ويناقض تكاليف شريعتهم، باسم المصلحة أو الوقاية، فلا مصلحة إلا في اتباع دينهم، ولا وقاية إلا بحفظ عهدهم مع ربهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
مع أنهم طلبوا الحياة وتركوا الآخرة لم ينالوا ما طلبوه طيبا، بل أخذوه ذليلا مهينا، مصحوبا بالخزي، ولكنهم يريدون الحياة الدنيا على أية صورة كانت، {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة}، وإن جزاءهم في الآخرة التي تركوها وباعوها، [ما] قال الله تعالى فيهم:
{فلا يخفف عنهم العذاب} الفاء فاء الإفصاح التي تفيد ترتب ما بعدها على ما يفهم مما قبلها، أي أنه بسبب تلك المبادلة الخاسرة التي خسروا فيها الآخرة لا يخفف الله تعالى عنهم العذاب الشديد الذي يستقبلهم؛ لأن أسباب التشديد من التقاطع والتنابذ والحسد والجحود قائمة، ولا مسوغ للتخفيف قط،
{ولا هم ينصرون}، فلا ترى من نبي ينصرهم، ولا شفيع يشفع لهم لأنهم عدموا الشفعاء، وقتلوا النبيين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ} فاستبدلوا الباقي بالفاني، ورضوا بالعَرَض المحدود الزائل من المال والجاه واللذات الصغيرة، بدلاً من النعم الكبيرة الواسعة الخالدة والرضوان الإلهي العظيم...
{فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ} لأنهم أصروا على العناد والاستكبار على الحقّ،
{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}، لأنَّ الآخرة ليست فرصة الذين ينتصرون لأنفسهم من عذاب اللّه بعلاقاتهم البشرية الدنيوية، لأنه اليوم الذي لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ للّه.
من وحي الآيات:... نستوحي مما تقدّم، ما فيه فائدة لواقعنا العملي حاضراً ومستقبلاً، جملة أمور أبرزها التالي:
إنَّ لكلّ شريعة من الشرائع خطّة متماسكة، تحكم ربط أحكامها وتوزيع مواقعها، فلا تجزئة ولا انفصال، بل هي حلقات متصلة في سلسلة واحدة يكمّل بعضها بعضاً، ما يجعل الالتزام الكلي بها أساساً لتحقيق الغاية التي أرادها اللّه منها، ولعلّنا نستوحي ذلك من الحديث المأثور عن النبيّ (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللّه إلاَّ بُعداً»، والحديث الآخر المرويّ في نهج البلاغة: «كم من صائم ليس له من صيامه إلاَّ الجوع والظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلاَّ السهر والعناء، حبّذا نوم الأكياس وإفطارهم...» [3]. فإننا نستفيد منهما أنَّ قيمة الطاعة تتحدّد بمقدار ما تحقّق من هدف الأمر والنهي، سواء كانت الغاية مربوطة بكيفية أداء الطاعة كما في الصلاة والصوم، أو كانت متصلة بالواجبات أو المحرّمات المرتبطة بهدفٍ واحد، من حيث علاقتها بتكوين الشخصية الإنسانية على قاعدةٍ واحدة. ولعلّ الآية التي تحدّثنا عنها أبلغ شاهد على الفكرة، لأنَّ احترام حرية الإنسان في نفسه وفي أرضه ينطلق من فكرة الإيمان بحرية الإنسان المنطلقة من الإيمان باللّه في رسالته وشريعته، فلا معنى لأن يؤمن الإنسان بهذه الحرية في جانب ويكفر بها في جانب آخر، لارتباط المواقف بعضها ببعض في تحقيق هذا المعنى الكبير في الحياة.
إنَّ من الممكن استيحاء الفكرة التي ترفض ما تعارف عليه بعض المسلمين من المتأثرين بالمبادئ والأفكار الأوروبية، سواءٌ منها الأفكار الرأسمالية أو الماركسية أو غيرها من الأفكار غير الإسلامية المتعلّقة ببعض الجوانب العملية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وخلاصة ما يثيره هؤلاء، أنَّ بإمكاننا أن نأخذ من الإسلام الجانب الروحي والأخلاقي في المفاهيم والتشريعات المتعلّقة بالحياة، ولا سيما ما يتعلّق منها بالجانب العبادي أو الأحوال الشخصية، أمّا التنظيم الاقتصادي والسياسي والتخطيط الاجتماعي، فلا بُدَّ لنا فيه من الرجوع إلى الفكر الأوروبي، لأنَّ هذا الفكر يرتكز على قواعد علمية مبنية على دراسة الواقع من خلال المعطيات العامة التي أفرزها التطور، ويقررون في هذا المجال أنَّ التشريعات الإسلامية التي تتصل بهذه الجوانب لا تفي بحاجة الحياة إلى التنظيم والتخطيط، ولكنَّنا نلاحظ أنَّ هذا اللون من التفكير محكوم بعقلية الانبهار بالفكر الأوروبي الذي قد يعتبره فوق مستوى النقد، بل هو باعث الحياة المتطورة على صورته...
وربما كان من الأجدر بهم من وجهة الإخلاص للتفكير العلمي أن يدققوا في القواعد العامة الإسلامية التي تضمنتها نصوص الكتاب والسنّة، وفصّلتها أبحاث الفقهاء المسلمين المستمدة من المصادر الأصيلة للتشريع، ليطّلعوا على الإمكانات الفكرية والقانونية التي تستطيع أن تدفع بحياة المجتمع إلى الأمام. وقد لا يكفينا في إهمال هذه الجوانب من التشريع الإسلامي أن نلاحظ عدم انسجام الشكل العملي للأوضاع الإدارية والسياسية والاقتصادية التي كانت في الماضي عندما كان الإسلام يحكم الحياة مع الشكل الموجود الآن، لأنَّ من الممكن للاجتهاد الإسلامي أن يلاحظ وجود بدائل من قلب التشريع مما يملأ هذا الفراغ.
إنَّ المسلم يحمل في وعيه الإسلامي فكرة إجمالية عن الحقيقة الإسلامية التالية: وهي أنَّ للّه في كلّ واقعةٍ من وقائع الحياة حكماً شرعياً محدّداً يصيبه من يصيبه ويخطئه من يخطئه، وهذه الفكرة وإن كانت صحيحة إجمالاً، فهي لا تتعارض وإمكان وجود فراغ يمارس فيه ولي الأمر حرية التحرّك في بعض المجالات العملية العامة؛ كما يفرض على المفكرين المسلمين متابعة البحث عن الأحكام الشرعية، في كلّ ما استحدثه الإنسان من أوضاع الحياة وشؤونها وأساليبها، في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لئلا يبقى الإنسان المسلم في حيرة أمام حركة التطور العام في الحياة، إذ يبقى هذا البحث خاضعاً للمبادئ العامة والتصوّرات الكلية للشريعة، لا مجرّد اجتهاد آخر خالٍ من أي ضوابط مقررة. من هنا، فإننا لا نبرر اختيار أساليب الفكر المضادّ في بعض الجوانب، والأخذ بالإسلام في البعض الآخر، لأننا نكون مصداقاً لقول اللّه في حديثه عن اليهود: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}. 3 إنَّ اللّه يعتبر الشريعة ميثاقاً بين اللّه وبين عباده، لأنَّ الالتزام بها يمثّل الإقرار بمضمونها، تماماً كما هو الالتزام ضمن أيّ عهد من العهود، وبذلك يتحوّل العصيان والتمرّد والانحراف إلى عملية خيانةٍ للعهد ونقض له، ما يجعل الصورة قاتمةً في داخل الذات، فتوحي للإنسان باحتقار نفسه، كما في أية حالة من حالات الخيانة، وقد يكون من الخير لنا العمل على إثارة هذا الجانب في أساليب التربية الدينية، لأنَّ الإنسان قد يقبل لنفسه صفة العاصي، ولكنَّه لن يقبل لها صفة الخائن، لما تحمله هذه الكلمة من إيحاءات مسيئة تثقل وجود الإنسان وضميره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآيات الكريمة في معرض حديثها عن بني إسرائيل تطرح سنناً كونية في بقاء الشعوب وانحطاطها.
[و] أهم عامل لبقاء الأمة ورفعتها وعزتها في [التصور الاسلامي]، اعتماد الأمة على قوّة الله وقدرته الأبدية وخضوعها له وحده دون سواه وخشيته وحده دون غيره: {لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ الله}.
ومن عوامل البقاء أيضاً التلاحم الاجتماعي بين أفراد الأمة، وهذا ما يعبّر عنه القرآن بالإحسان إلى الوالدين باعتبارهما أقرب أفراد المجتمع إلى الإنسان، ثم الإحسان إلى ذي القربى، ثم بعد ذلك إلى عامة أفراد المجتمع من الفقراء والمساكين وغيرهم من النّاس.
إزالة التمييز الطبقي ورفع الهوة السحيقة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع، عن طريق إيتاء الزكاة.
أما عوامل السقوط فهي عبارة عن تفكّك البنية الاجتماعية، ونشوب النزاعات والحروب الداخلية بين أفراد المجتمع، واستضعاف بعضهم بعضاً. {لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم...}.
ثم الازدواجية في الالتزام بأحكام الله تعالى عامل هام من عوامل السقوط، يدفع بالأفراد لأن يتحركوا حول محور مصالحهم الآنيّة الذاتية الضيقة، فيلتزموا بالقوانين التي تحفظ لهم منافعهم الشخصية، ويتركوا القوانين النافعة للمجتمع: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}...