اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (86)

قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوهاً مردودة لا بُدّ من التنبيه عليها ، فأجاز أن يكون " أولئك " مبتدأ ، و " الذين اشتروا " خبره ، " فلا يُخَفَّف عنهم العَذَاب " خبراً ثانياً ل " أولئك " .

قال : ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله : " فَلا يُخَفَّفُ " لم يجعله خبراً للموصول حتى تدخل " الفاء " في خبره ، وإنما جعله خبراً عن " أولئك " وأين هذا من ذاك ؟

وأجاز أيضاً أن يكون الذين مبتدأ ثانياً ، و " فلا يخفف " خبَره ، دخلت لكونه خبراً للموصول ، والجملة خبراً عن " أولئك " .

قال : ولم يَحْتَج هذا إلى عائد ؛ لأن " الذين " هم " أولئك " كما تقول : " هذا زيد منطلق " ، وهذا أيضاً خطأ لثلاثة أوجه :

أحدها : خلوّ الجملة من رابط ، وقوله : " لأن الذين " هم " أولئك " لا يفيد ، فإن الجملة المستغنية لا بُدّ وأن تكون نفس المبتدأ .

وأما تنظيره ب " هذا زيد منطلق " فليس بصحيح ، فإن " هذا " مبتدأ و " زيد " خبره ، و " منطلق " خبر ثانٍ ، ولا يجوز أن يكون " زيد " مبتدأ ثانياً ، و " منطلق " خبره ، والجملة خبر عن الأول ، للخلو من الرابط .

الثاني : أن الموصول هنا لقوم معيّنين وليس عامّاً ، فلم يُشْبه الشرط ، فلم تدخل " الفاء " في خبره .

الثالث : أن صلته ماضية لفظاً ومعنى ، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبال ، فلا يجوز دخول الفاء في الخبر .

فتعيّن أن يكون " أولئك " مبتدأ والموصول بصلته خبرَه ، و " فلا يخفف " معطوف على الصِّلَةِ ، ولا يضر تَخَالُف الفعلين في الزمان ، فإنّ الصِّلاتِ من قبيل الجُمَل ، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان ، فيجوز أن تقول : جاء الذي قتل زيداً أمس ، وسيقتل عَمْراً غداً ، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات .

وقيل : دخلت " الفاء " بمعنى جواب الأمر كقوله : أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم .

فصل في تفسير تخفيف العذاب

حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع ؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف ، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام ، أو في كلّ الأوقات ، فإذا وصف عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نَفْيَ جميع ما ذكرناه .

قوله : { وَلاَ هُمْ يَنْصَرُونَ } يجوز في " هو " وجهان :

أحدهما : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء ، وما بعده خبره ، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي : " فلا يخفف " .

والثاني : أن يكون مرفوعاً بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر ، وتكون المسألةُ مِنْ باب الاشتغال ، فلما حذف الفعل انفصل الضَّمير ؛ ويكون كقوله : [ الطويل ]

645- فإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا *** فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ

وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة فعلية على مثلها ، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشْتِغَال . وليس المرجح كونه تقدمه " لا " النافية ، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الأولى به ، خلافاً لابن السيد حيث زعم أَنَّ " لا " النافية من المرجّحات لإضمار الفِعْل ، وهو قول [ مرغوب عنه ] ولكنه قَوِيَ من حيث البحث . فقوله : " ينصرون " لا محلّ له على هذا ؛ لأنه مُفَسِّرٌ ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر .

فصل

حمله بعضهم على نفي النُّصْرة في الآخرة ، والأكثرون حملوه على نفي النُّصْرة في الدنيا .

قال ابن الخطيب : والأول أولى ، لأنه تعالى جعله جزاء على صنعهم ولذلك قال : { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ } وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة ؛ لأنَّ عذاب الدنيا وإن حصل ، فيصير كالحدود ؛ لأن الكُفَّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات .