{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة .
وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله : { أولئك على هدى من ربهم } وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف ، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيهاً على أنه هو جامع تلك الأوصاف .
والذين : خبر عن أولئك ، وتقدّم الكلام في قوله : { اشتروا } ، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضاً ومعوّضاً أعياناً .
فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني ، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء ، إيثاراً للعاجل الفاني على الآجل الباقي ، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله ، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده ، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل .
قال بعض أرباب المعاني : إن الدنيا : ما دنا من شهوات القلب ، والآخرة : ما اتصلت برضا الرب .
فلا يخفف معطوف على الصلة ، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً ، تقول : جاءني الذي قتل زيداً بالأمس ، وسيتقل غداً أخاه ، إذ الصلاة هي جمل ، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات ، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره ، وعلى اختيار التوافق في الصيغة ، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ والذين بصلته خبراً .
وفلا : يخفف خبر بعد خبر ، وعلل دخول الفاء لأن الذين ، إذا كانت صلته فعلاً ، كان فيها معنى الشروط ، وهذا خطأ ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك ، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول ، إنما هو خبر عن أولئك ، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه .
وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين مبتدأ ثان ، وفلا يخفف خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك .
قيل : ولم يحتج إلى عائد ، لأن الذين هم أولئك ، كما تقول : هذا زيد منطلق ، وهذا خطأ ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط ، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط .
وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره ، فلا بد من الرابط .
وليس نظير ما مثل به من قوله : هذا زيد منطلق ، لأن زيد منطلق خبران عن هذا ، وهما مفردان ، أو يكون زيد بدلاً من هذا ، ومنطلق خبراً .
وأما أن يكون هذا مبتدأ ، وزيد مبتدأ ثانياً ، ومنطلق خبراً عن زيد ، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا ، فلا يجوز لعدم الرابط .
وأيضاً فلو كان هنا رابط ، لما جاز هذا الإعراب ، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه ، فلا يشبه اسم الشرط ، إذ يزول العموم باختصاصه ، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى .
ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً .
والتخفيف هو التسهيل ، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع ، وحمل أيضاً على التشديد .
والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع ، أو بالتقليل منه ، أو في وقت ، أو في كل الأوقات ، لأنه نفي للماهية ، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها .
والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنه نفي في المستقبل .
وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا بنقصان الجزية ، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة .
ومعنى نفى النصر : أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله .
{ ولا هم ينصرون } : جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية ، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حدّ قوله :
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها***
ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله : { فلا يخفف } ، وهو جملة فعلية ، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء ، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل ، لا اختصاصاً ولا أولوية ، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد ، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا ، أولى من الابتداء ، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل ، لأنه أعم ، إلا إن جعل الفاعل عاماً ، فيكون ولا هم ينصرهم أحد ، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد ، ويفوت الإيجاز ، مع أن قوله : { ولا هم ينصرون } يفيد ذلك ، أعني العموم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.