البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا بِٱلۡأٓخِرَةِۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنصَرُونَ} (86)

{ أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون } : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، الذين تقدّم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض ، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة .

وقد تقدّم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله : { أولئك على هدى من ربهم } وأنه إذا عدّدت أوصاف لموصوف ، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيهاً على أنه هو جامع تلك الأوصاف .

والذين : خبر عن أولئك ، وتقدّم الكلام في قوله : { اشتروا } ، وتقدّم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضاً ومعوّضاً أعياناً .

فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني ، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء ، إيثاراً للعاجل الفاني على الآجل الباقي ، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله ، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده ، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل .

قال بعض أرباب المعاني : إن الدنيا : ما دنا من شهوات القلب ، والآخرة : ما اتصلت برضا الرب .

فلا يخفف معطوف على الصلة ، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً ، تقول : جاءني الذي قتل زيداً بالأمس ، وسيتقل غداً أخاه ، إذ الصلاة هي جمل ، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات ، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره ، وعلى اختيار التوافق في الصيغة ، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ والذين بصلته خبراً .

وفلا : يخفف خبر بعد خبر ، وعلل دخول الفاء لأن الذين ، إذا كانت صلته فعلاً ، كان فيها معنى الشروط ، وهذا خطأ ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك ، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول ، إنما هو خبر عن أولئك ، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه .

وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين مبتدأ ثان ، وفلا يخفف خبر عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك .

قيل : ولم يحتج إلى عائد ، لأن الذين هم أولئك ، كما تقول : هذا زيد منطلق ، وهذا خطأ ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط ، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط .

وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره ، فلا بد من الرابط .

وليس نظير ما مثل به من قوله : هذا زيد منطلق ، لأن زيد منطلق خبران عن هذا ، وهما مفردان ، أو يكون زيد بدلاً من هذا ، ومنطلق خبراً .

وأما أن يكون هذا مبتدأ ، وزيد مبتدأ ثانياً ، ومنطلق خبراً عن زيد ، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا ، فلا يجوز لعدم الرابط .

وأيضاً فلو كان هنا رابط ، لما جاز هذا الإعراب ، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه ، فلا يشبه اسم الشرط ، إذ يزول العموم باختصاصه ، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى .

ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً .

والتخفيف هو التسهيل ، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع ، وحمل أيضاً على التشديد .

والأولى جملة على نفي التخفيف بالانقطاع ، أو بالتقليل منه ، أو في وقت ، أو في كل الأوقات ، لأنه نفي للماهية ، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها .

والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنه نفي في المستقبل .

وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا بنقصان الجزية ، وكذلك نفى النصر في الدنيا والآخرة .

ومعنى نفى النصر : أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله .

{ ولا هم ينصرون } : جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية ، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حدّ قوله :

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها***

ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله : { فلا يخفف } ، وهو جملة فعلية ، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء ، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل ، لا اختصاصاً ولا أولوية ، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد ، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا ، أولى من الابتداء ، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل ، لأنه أعم ، إلا إن جعل الفاعل عاماً ، فيكون ولا هم ينصرهم أحد ، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد ، ويفوت الإيجاز ، مع أن قوله : { ولا هم ينصرون } يفيد ذلك ، أعني العموم .

/خ86