أما الصفتان الرابعة والخامسة من صفات هؤلاء المؤمنين فهما قوله - تعالى - { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
والمراد بإقامة الصلاة : أداؤها في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وآدابها وخشوعها - من أقام الشئ إقامة إذا قومه وأزال عوجه لأن الشأن في صلاة المؤمنين أن تكون : إحساسا عميقا بالوقوف بين يدى الله ، وانقطاعا تاما لمناجاته ، وتمثلا حياً لجلاله وكبريائه ، واسغراقا كاملا في دعائه .
والمراد بقوله : { يُنفِقُونَ } يخرجون ويبذلون ، من الإِنفاق وهو إخراج المال وبذله وصرفه .
والجملة الكريمة في محل رفع صفة للموصول في الآية السابقة أو بدل منه أو بيان له .
والمعنى : أن من صفات هؤلاء المؤمنين أنهم يؤدون الصلاة في مواقيتها مستوفية لأركانها وشروطها وسننها وأدابها وخشوعها . . وأنهم يبذلون أموالهم للفقراء والمحتاجين بسماحة نفس ، وسخاء يد ، استجابة لتعاليم دينهم .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد وصف هؤلاء المؤمنين بخمس صفات : الأولى والثانية والثالثة منها ترجع إلى العبادات القلبية التي تدل على شدة خشيتهم من ربهم ، وقوة تأثرهم بآيات خالقهم ، واعتمادهم عليه - سبحانه وحده لا على أحد سواه .
والصفة الرابعة ترجع إلى العبادات البدنية ، وهى إقامة الصلاة بإخلاص وخشوع . أما الصفة الخامسة ترجع إلى العبادات المالية ، وهى إنفاق المال في سبيل الله ولاشك أن هذه الصفات متى تمكنت في النفوس ، كان صاحبها أهلا لمحبة الله ؛ ورضوانه ،
ولذا مدح - سبحانه - أصحاب هذه الصفات ، وبين ما أعده لهم من ثواب جزيل فقال : { أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } .
وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة - بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة - ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل . فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان ، لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان .
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها . إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها . الأداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود - سبحانه - لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل ! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً .
في الزكاة وغير الزكاة . . وهم ينفقون ( مما رزقناهم ) . . فهو بعض مما رزقهم الرازق . . وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته . فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً . إنما هو مما رزقهم الله إياه - من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى - فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه ، ويحتفظون منه ببقية . والأصل هو رزق الله وحده !
تلك هي الصفات التي حدد الله بها - في هذا المقام - الإيمان . وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله ؛ والاستجابة الوجدانية لذكره ؛ والتأثر القلبي بآياته ؛ والتوكل عليه وحده ؛ وإقامة الصلاة له ، والإنفاق من بعض رزقه . .
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان - كما وردت في النصوص الأخرى - إنما هي تواجه حالة واقعة . . حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها . . فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة . وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملة ً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً . بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها . فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة . ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي ، لا منهج نظري معرفي ، مهمته بناء [ نظرية ] وعرضها لذاتها !
وقوله { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ينبه بذلك على أعمالهم ، بعد ما ذكر اعتقادهم ، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها ، وهو إقامة الصلاة ، وهو حق الله تعالى .
وقال قتادة : إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها{[12656]} ووضوئها ، وركوعها ، وسجودها .
وقال مقاتل بن حَيَّان : إقامتها : المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الطهور فيها ، وتمام ركوعها وسجودها ، وتلاوة القرآن فيها ، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا إقامتها .
والإنفاق مما رزقهم الله يشمل خراج{[12657]} الزكاة ، وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب ، والخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم{[12658]} إلى الله أنفعهم لخلقه .
قال قتادة في قوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله ، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم ، أوشكت أن تفارقها .
ثم أتبع ذلك وعدهم{[5220]} ووسمهم بإقامة الصلاة ومدحهم بها حضاً على ذلك ، وقوله { ومما رزقناهم ينفقون } قال جماعة من المفسرين : هي الزكاة .
قال القاضي أبو محمد : وإنما حملهم على ذلك اقتران الكلام بإقامة الصلاة وإلا فهو لفظ عام في الزكاة ونوافل الخير وصلاة المستحقين ، ولفظ ابن عباس في هذا المعنى محتمل .
وَصْفُهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاءَ بإعادة الموصول ، كما أعيد في قوله : { والذين يؤمنون بما أنزل إليك } في سورة البقرة ( 4 ) ، وذلك للدلالة على الانتقال ، في وصفهم ، إلى غرض آخر غيرِ الغرض الذي اجتُلُبَ الموصول الأول لأجله ، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان : وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها ، ولكنه مجرد المدح ، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : { ويقيمون الصلاة } في سورة البقرة ( 3 ) . وجيء بالفعلين المضارعين في { يقيمون } و { ينفقون } للدلالة على تكرر ذلك وتجدده .
واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة ، التي موصولها خبرٌ عن مبتدأ أن تُعتبر خبراً بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة ، ومقتضى الاستعمال في الاخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبراً مستقلاً عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى ، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً . وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها ، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآيله إلى معنى قصر الإيمان الكاملِ على صاحب كل صلة من هذه الصلات ، وعلى صاحب الخبرين ، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه ، فإن أدلة قطعية من أصول الدين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل { المؤمنون } [ الأنفال : 2 ] على إرادة أصحاب الإيمان الكامل .