وفي ظل هذا المشهد العنيف العميق المؤثر بجانبيه تختم السورة بالتذكير بنعمة الرسالة والتخويف من عاقبة التكذيب :
( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون . فارتقب إنهم مرتقبون ) . .
وهو ختام يلخص جو السورة وظلها . ويتناسق مع بدئها وخط سيرها . فقد بدأت بذكر الكتاب وتنزيله للإنذار والتذكير ، وورد في سياقها ما ينتظر المكذبين . ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) . . فجاء هذا الختام يذكرهم بنعمة الله في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي الذي يفهمونه ويدركون معانيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنّهُمْ مّرْتَقِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإنما سهّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك ، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه ، ويتّعظوا بعظاته ، ويتفكّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم ، فينيبوا إلى طاعة ربهم ، ويذعنوا للحقّ عند تَبَيُنهموه . كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنّمَا يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ : أي هذا القرآن لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإنّما يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ قال : القرآن ، ويسّرناه : أطلق به لسانه .
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة ، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضاراً لتلك الأغراض وضبطاً لترتُّب علتها .
وضمير { يسرناه } عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله { والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ } [ الدخان : 2 ، 3 ] الخ ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة ، وقوله : { والكتاب المبين } ، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر . فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله : { فإنما يسرناه بلسانك } لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعاً على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ .
ويجوز أن يكون المفرع قوله : { لعلهم يتذكرون } . وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماماً بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذّكرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم .
والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهَّل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله : { بل هم في شَكٍ يلعبون } [ الدخان : 9 ] أي إنا جعلنا فهمه يسيراً بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا . فمفعول { يسرناه } مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره : فهمه .
والباء في { بلسانك } للسببية ، أي بسبب لغتك ، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له ، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى : { وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] .
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى : { بلسانٍ عربيٍ مبينٍ } [ الشعراء : 195 ] .
وأفصح قوله { لعلهم يتذكرون } عن الأمر بالتذكير بالقرآن . والتقدير : فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر ، فالتيسير هنا تسهيل الفهم ، وتقدم عند قوله تعالى : { فإنما يسرّناه بلسانك لتبشر به المتقين } الخ في سورة مريم ( 97 ) .
و ( لعلّ ) مستعملة في التعليل ، أي لأجل أن يتذكّروا به ، وَهَذَا كقوله : { وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } [ الأحقاف : 12 ] .
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر ، قال تعالى : { ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر } [ القمر : 17 ] ، وبأن سبب ذلك التيسير كونُه بأفصح اللغات وكونُه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسبباً قريباً لو لم يكونوا في شك يلعبون . وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله : { فارتقب إنهم مرتقبون } أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى .