ثم بين - سبحانه - ما يحدث للرسول صلى الله عليه وسلم لو أنه - على سبيل الفرض - غيرَّ أو بدل شيئا من القرآن فقال : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل . لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين . فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
والتقول : افتراء القول ، ونسبته إلى من لم يقله ، فهو تفعل من القول يدل على التكلف والتصنع والاختلاق .
والأقاويل : جمع أقوال ، الذى هو جمع قول ، فهو جمع الجمع .
أى : ولو أن محمداً صلى الله عليه وسلم افترى علينا بعض الأقوال ، أو نسب إلينا قولا لم نقله ، أو لم نأذن له فى قوله . . لو أنه فعل شيئا من ذلك على سبيل الفرض .
وفي النهاية يجيء ذلك التهديد الرعيب ، لمن يفتري على الله في شأن العقيدة وهي الجد الذي لا هوادة فيه . يجيء لتقرير الإحتمال الواحد الذي لا احتمال غيره ، وهو صدق الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وأمانته فيما أبلغه إليهم أو يبلغه . بشهادة أن الله لم يأخذه أخذا شديدا . كما هو الشأن لو انحرف أقل انحراف عن أمانة التبليغ :
( ولو تقول علينا بعض الأقاويل . لأخذنا منه باليمين . ثم لقطعنا منه الوتين . فما منكم من أحد عنه حاجزين ) . .
ومفاد هذا القول من الناحية التقريرية أن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] صادق فيما أبلغهم . وأنه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها إليه ، لأخذه الله فقتله على هذا النحو الذي وصفته الآيات . ولما كان هذا لم يقع فهو لا بد صادق .
هذه هي القضية من الناحية التقريرية . . ولكن المشهد المتحرك الذي ورد فيه هذا التقرير شيء آخر ، يلقي ظلالا بعيدة وراء المعنى التقريري . ظلالا فيها رهبة وفيها هول . كما أن فيها حركة وفيها حياة . ووراءها إيحاءات وإيماءات وإيقاعات !
فيها حركة الأخذ باليمين وقطع الوتين . وهي حركة عنيفة هائلة مروعة حية في الوقت ذاته . ووراءها الإيحاء بقدرة الله العظيمة وعجز المخلوق البشري أمامها وضعفه . . البشر أجمعين . . كما أن وراءها الإيماء إلى جدية هذا الأمر التي لا تحتمل تسامحا ولا مجاملة لأحد كائنا من كان . ولو كان هو محمد الكريم عند الله الأثير الحبيب . ووراءها بعد هذا كله إيقاع الرهبة والهول والخشوع !
يقول تعالى ذكره : ولكنه تَنْزِيلٌ من ربّ العالَمِينَ نزل عليه وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنا محمد بَعْضَ الأقاوِيلِ الباطلة ، وتكذب علينا لأَخَذْنا مِنْهُ باليَمِين يقول : لأخذنا منه بالقوّة منا والقدرة ، ثم لقطعنا منه نياط القلب . وإنما يعني بذلك أنه كان يعاجله بالعقوبة ، ولا يؤخره بها .
وقد قيل : إن معنى قوله لاَءَخَذْنَا مِنْهُ باليَمِينِ : لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه قالوا : وإنما ذلك مثل ، ومعناه : إنا كنا نذله ونهينه ، ثم نقطع منه بعد ذلك الوتين قالوا : وإنما ذلك كقول ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه ، خذ بيده فأقمه ، وافعل به كذا وكذا قالوا : وكذلك معنى قوله : لأَخَذْنا مِنْهُ باليَمِين : أي لأهناه كالذي يفعل بالذي وصفنا حاله . وبنحو الذي قلنا في معني قوله الوَتِينَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ قال : نياط القلب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بمثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس بمثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس الوَتِينَ : نِياط القلب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير بنحوه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن سعيد بن جبير بمثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ يقول : عرق القلب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ يعني : عرقا في القلب ، ويقال : هو حبل في القلب .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : الوَتِينَ قال : حبل القلب الذي في الظهر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ قال : حبل القلب .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ وتين القلب : وهو عرق يكون في القلب ، فإذا قطع مات الإنسان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ثُمّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الوَتِينَ قال : الوتين : نياط القلب الذي القلب متعلق به ، وإياه عنى الشماخ بن ضرار التغلبي بقوله :
إذَا بَلّغْتِني وحَمَلْتِ رَحْلِىعَرَابَةَ فاشْرَقي بدَمِ الوَتِينِ
وقرأ ذكوان وابنه محمد{[11300]} : «ولو يقُول » بالياء وضم القاف ، وهذه القراءة معرضة بما صرحت به قراءة الجمهور ، ويبين التعريض قوله { علينا بعض الأقاويل } .
هذه الجملة عطف على جملة { فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون } [ الحاقة : 3839 ] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومَن جاء به وقال : إنه وحي من الله تعالى .
فمفاد هذه الجملة استدلال ثان على أن القرآن منزل من عند الله تعالى على طريقة المذهب الكلامي ، بعد الاستدلال الأول المستند إلى القَسم والمؤكدات على طريقة الاستدلال الخَطابي .
وهو استدلال بما هو مقرر في الأذهان من أن الله واسع القدرة ، وأنه عليم فلا يقرر أحداً على أن يقول عنه كلاماً لم يقله ، أي لو لم يكن القرآن منزلاً من عندنا ومحمد ادعى أنه منزَّل مِنا ، لما أقررناه على ذلك ، ولعجّلنا بإهلاكه . فعدَم هلاكه صلى الله عليه وسلم دال على أنه لم يتقوله على الله ، فإن { لو } تقتضي انتفاء مضمون شرطها لانتفاءِ مضمون جوابها .
فحصل من هذا الكلام غرضان مهمان :
أحدهما : يعود إلى ما تقدم أي زيادة إبطال لمزاعم المشركين أن القرآن شعر أو كهانة إبطالاً جامعاً لإِبطال النوعين ، أي ويوضح مخالفة القرآن لهذين النوعين من الكلام أن الآتي به ينسبه إلى وحي الله وما عَلِمْتُم شاعراً ولا كاهناً يزعم أن كلامَه من عند الله .
وثانيهما : إبطال زعم لهم لم يسبق التصريح بإبطاله وهو قول فريق منهم { افتراه } [ يونس : 38 ] ، أي نسبه إلى الله افتراء وتقوّله على الله قال تعالى { أم يقولون تقوَّله بَلْ لا يؤمنون } [ الطور : 33 ] فبين لهم أنه لو افترَى على الله لما أقرّه على ذلك .
ثم إن هذا الغرض يستتبع غرضاً آخر وهو تأييسهم من أن يأتي بقرآن لا يخالف دينَهم ولا يسفه أحلامهم وأصنامهم ، قال تعالى : { قال الذين لا يرجون لقاءَنا إيْتتِ بقرآننٍ غيرِ هذا أو بَدِّلْه } [ يونس : 15 ] . وهذه الجملة معطوفة عطف اعتراض فلك أن تجعل الواو اعتراضية فإنه لا معنى للواو الاعتراضية إلاّ ذلك .
والتقول : نسبة قول لمن لم يقله ، وهو تفعُّل من القول صيغت هذه الصيغةَ الدالة على التكلف لأن الذي ينسب إلى غيره قولاً لم يقله يتكلف ويختلق ذلك الكلام ، ولكونه في معنى كذب عُدي ب ( على ) .
والمعنى : لو كذب علينا فأخبر أنا قلنا قولاً لم نقله إلخ .
و { بعضَ } اسم يدل على مقدار من نوع ما يضاف هو إليه ، وهو هنا منصوب على المفعول به ل { تقوَّل .
و{ الأقاويل } : جمع أقوال الذي هو جمع قول ، أي بعضاً من جنس الأقوال التي هي كثيرة فلكثرتها جيء لها بجمع الجمع الدال على الكثرة ، أي ولو نسب إلينا قليلاً من أقواللٍ كثيرة صادقةٍ يعني لو نسب إلينا شيئاً قليلاً من القرآن لم ننزله لأخذنا منه باليمين ، إلى آخره .