ولو فعلوا ذلك ، لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا ، حتى تحل بهم العقوبة ، كما هي سنة الله التي لا تحول ولا تبدل في جميع الأمم ، كل أمة كذبت رسولها وأخرجته ، عاجلها الله بالعقوبة .
ولما مكر به الذين كفروا وأخرجوه ، لم يلبثوا إلا قليلا ، حتى أوقع الله بهم ب " بدر " وقتل صناديدهم ، وفض بيضتهم ، فله الحمد .
وفي هذه الآيات ، دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه ، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه ، أن يثبته على الإيمان ، ساعيا في كل سبب موصل إلى ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق ، قال الله له : { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا } فكيف بغيره ؟ " وفيها تذكير الله لرسوله منته عليه ، وعصمته من الشر ، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أن يتفطنوا لإنعامه عليهم -عند وجود أسباب الشر - بالعصمة منه ، والثبات على الإيمان .
وفيها : أنه بحسب علو مرتبة العبد ، وتواتر النعم عليه من الله يعظم إثمه ، ويتضاعف جرمه ، إذا فعل ما يلام عليه ، لأن الله ذكر رسوله لو فعل - وحاشاه من ذلك - بقوله : { إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا }
وفيها : أن الله إذا أراد إهلاك أمة ، تضاعف جرمها ، وعظم وكبر ، فيحق عليها القول من الله فيوقع بها العقاب ، كما هي سنته في الأمم إذا أخرجوا رسولهم .
ثم بين - سبحانه - أن نصرة رسله سنة من سننه التى لا تتخلف فقال : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } .
ولفظ { سنة } منصوب على أنه مصدر مؤكد ، أى : سن الله ما قصه عليك سنة ، وهذه السنة هى أننا لا نترك بدون عقاب أمة أخرجت رسولها من أرضه ، وقد فعلنا ذلك مع الأقوام السابقين الذين أخرجوا أنبياءهم من ديارهم ولا تجد - أيها الرسول الكريم - لسنتنا وطريقتنا تحويلا أو تبديلا ، ولولا أننا قد منعنا عن قومك عذاب الاستئصال لوجودك فيهم ، لأهلكناهم بسبب إيذائهم لك ، وتطاولهم عليك .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ . . . }
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانباً من المسالك الخبيثة التى اتبعها المشركون مع النبى صلى الله عليه وسلم كما حكت لنا ألواناً من فضل الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم حيث عصمه من أى ركون إليهم ووعده بالنصر عليهم .
ثم أرشد الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما يعينه على التغلب على كيد المشركين ، وإلى ما يزيده رفعة فى الدرجة ، وبشره بأن ما معه من حق ، سيزهق ما مع أعدائه من باطل فقال - تعالى - : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً . . . } .
ولو أخرجوا الرسول [ ص ] عنوة وقسرا لحل بهم الهلاك ( وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) فهذه هي سنة الله النافذة : ( سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، ولا تجد لسنتنا تحويلا ) .
ولقد جعل الله هذه سنة جارية لا تتحول ، لأن إخراج الرسل كبيرة تستحق التأديب الحاسم . وهذا الكون تصرفه سنن مطردة ، لا تتحول أمام اعتبار فردي . وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون ، إنما هي السنن المطردة الثابتة . فلما لم يرد الله أن يأخذ قريشا بعذاب الإبادة كما أخذ المكذبين من قبل ، لحكمة علوية ، لم يرسل الرسول بالخوارق ، ولم يقدر أن يخرجوه عنوة ، بل أوحى إليه بالهجرة . ومضت سنة الله في طريقها لا تتحول . .
أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم : يخرج الرسول من بين أظهرهم : ويأتيهم العذاب . ولولا أنه عليه [ الصلاة و ]{[17704]} السلام رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] .
القول في تأويل قوله تعالى { سُنّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنّتِنَا تَحْوِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلاّ قليلاً ، ولأهلكناهم بعذاب من عندنا ، سنتنا فيمن قد أرسلنا قبلك من رسلنا ، فإنا كذلك كنا نفعل بالأمم إذا أخرجت رسلها من بين أظهرهم ونصبت السنة على الخروج من معنى قوله لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إلاّ قَلِيلاً لأن معنى ذلك : لعذّبناهم بعد قليل كسنتنا في أمم من أرسلنا قبلك من رسلنا ، ولا تجد لسنتنا تحويلاً عما جرت به . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : سُنّةَ مَنْ قَدْ أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنّتِنا تَحْوِيلاً : أي سنة الأمم والرسل كانت قبلك كذلك إذا كذّبوا رسلهم وأخرجوهم ، لم يناظروا أن الله أنزل عليهم عذابه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا}، يقول الله سبحانه: كذلك سنة الله عز وجل في أهل المعاصي، يعني: الأمم الخالية إن كذبوا رسلهم أن يعذبوا.
{ولا تجد لسنتنا تحويلا}، إن قوله حق في أمر العذاب، يقول: السنة واحدة فيما مضى وفيما بقي...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لو أخرجوك لم يلبثوا خلافك إلاّ قليلاً، ولأهلكناهم بعذاب من عندنا، سنتنا فيمن قد أرسلنا قبلك من رسلنا، فإنا كذلك كنا نفعل بالأمم إذا أخرجت رسلها من بين أظهرهم... "ولا تجد لسنتنا تحويلاً "عما جرت به...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحقُّ أمضى سُنَّتَه مع الأولياء بالإنعام، ومع أعدائه بالإدغام، فلا لهذه أو هذه تحويل...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم: يخرج الرسول من بين أظهرهم: ويأتيهم العذاب. ولولا أنه عليه [الصلاة و] السلام رسول الرحمة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإرسال قد عمت بركته بهذه العظمة جميع الأزمان بما حفه به من قويم الفطرة، أسقط الجار فقال تعالى: {قبلك} أي في الأزمان الماضية كلها {من رسلنا} بأن جعلنا وجودهم بين ظهراني قومهم رحمة لقومهم، فإذا أخرجوهم عاجلنا من رضي بإخراجهم بالعقوبة. {ولا تجد لسنتنا} أي لما لها من العظمة {تحويلاً} أي بمحول غيرنا يحولها، لكنهم خصوا عن الأمم السالفة بأنهم لا يعذبون عذاب الاستئصال تشريفاً لهم بهذا النبي الكريم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وفي هذه الآيات، دليل على شدة افتقار العبد إلى تثبيت الله إياه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملقًا لربه، أن يثبته على الإيمان، ساعيا في كل سبب موصل إلى ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أكمل الخلق، قال الله له: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} فكيف بغيره؟ "وفيها تذكير الله لرسوله منته عليه، وعصمته من الشر، فدل ذلك على أن الله يحب من عباده أن يتفطنوا لإنعامه عليهم -عند وجود أسباب الشر -بالعصمة منه، والثبات على الإيمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا الكون تصرفه سنن مطردة، لا تتحول أمام اعتبار فردي. وليست المصادفات العابرة هي السائدة في هذا الكون، إنما هي السنن المطردة الثابتة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
السنّة: العادة والسيرة التي يلتزمها صاحبها. وتقدم القول في أنها اسم جامد أو اسم مصدر عند قوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن} [آل عمران: 136]، أي عادة الله في كل رسول أخرجه قومه أن لا يبقوا بعده، خرج هود من ديار عاد إلى مكة، وخرج صالح من ديار ثمود، وخرج إبراهيم ولوط وهلكت أقوامهم، فإضافة {سنة} إلى {من قد أرسلنا} لأدنى ملابسة، أي سنتنا فيهم بدليل قوله: {ولا تجد لسنتنا تحويلاً} فإضافته إلى ضمير الجلالة هي الإضافة الحقيقيّة... والتقدير: سَنَنّا ذلك لمن أرسلنا قبلك من رسلنا، أي لأجلهم... وجملة {سنة من قد أرسلنا} مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب كون لبثهم بعده قليلاً. وإنما سنّ الله هذه السنّة لرسله لأن تآمر الأقوام على إخراجهم يستدعي حِكمة الله تعالى لأنْ تتعلق إرادته بأمره إياهم بالهجرة لئلا يبقوا مرموقين بعين الغضاضة بين قومهم وأجوارهم بشبه ما كان يسمى بالخلع عند العرب...
وجملة {ولا تجد لسنتنا تحويلاً} اعتراض لتكملة البيان. والمعنى: أن ذلك كائن لا محالة لأننا أجريناه على الأمم السالفة ولأن عادتنا لا تتحول... والتعبير ب {لا تجد} مبالغة في الانتفاء... والتحويل: تغيير الحال وهو التبديل...
يوضح الحق تبارك وتعالى أن ما حدث هو سنة من سنن الله في الرسل، كما قال تعالى: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين "171 "إنهم لهم المنصورون "172" وإن جندنا لهم الغالبون "173 "} (سورة الصافات): فكان عليهم أن يأخذوا عبرة من الرسل السابقين، وبما حل بأعدائهم من عذاب الله... والسنة: هي العادة والطريقة التي لا تتخلف ولا تتبدل؛ لذلك يقول بعدها: {ولا تجد لسنتنا تحويلاً}: لأن السنة لا تتحول ولا تتبدل إلا بالأقوى الذي يأتي ليغير السنة بأخرى من عنده، فإذا كانت السنة من الله القوي بل الأقوى، فهو سبحانه وحده الذي يملك هذا التحويل، ولا يستطيع أحد أبداً تحويل سنة الله، فإذا قال سبحانه، فقوله الحق الذي لا يبدله أحد، ولا يعارضه أحد...