وبعد أن وصف - سبحانه - جانبا من طعامهم ولباسهم ومسكنهم أخذت السورة الكريمة فى وصف شرابهم . فقال - تعالى - : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ . قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً }
وقوله : { وَيُطَافُ } من الطواف ، وهو السعى المكرر حول الشئ ، ومنه الطواف بالكعبة . والآونية : جمع إناء ، وهو اسم لكل وعاء يوضع فيه الطعام والشراب والمراد بها هنا : الأوانى : التى يستعملونها فى مجالس شرابهم .
والأكواب : جمع كوب ، وهو القدح الذى لا عروة له ، وعطفه على الآنية من باب عطف الخاص على العام .
والقوارير : جمع قارورة وهى فى الأصل إناء رقيق من الزجاج النقى الشفاف ، توضع فيه الأشربة وما يشبهها ، فتستقر فيه .
أى : ويطاف على هؤلاء الأبرار بآنية كائنة من فضة ، وبأكواب وأقداح من فضة - أيضاً - وجعلت هذه الأكواب فى مثل القوارير فى صفائها ونقائها ، وفى مثل الفضة فى جمالها وحسنها ، بحيث يرى ما بداخلها من خارجها .
وقوله - سبحانه - { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أى : إن الطائفين بهذه الأكواب عليهم ، قد وضعوا فيها من الشراب على مقدار ما يشبع هؤلاء الأبرار ويرويهم بدون زيادة أو نقصان والطائفون عليهم بذلك هم الخدم الذين جعلهم الله - تعالى - لخدمة هؤلاء الأبرار . وبنى الفعل للمجهول للعلم بهم .
وقال - سبحانه - هنا { بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } وفى سورة الزخرف { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ . . . } زيادة فى تكريمهم وفى سمو منزلتهم ، إذ تارة يطاف عليهم بأكواب من فضة ، وتارة يطاف عليهم بصحاف من ذهب ، ومن المعروف أنه كلما تعددت المناظر الحسنة ، والمشارب اللذيذة ، كان ذلك أبهج للنفس .
والمراد بالكينونة فى قوله - تعالى - { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ . . . } أنها تكونت ووجدت على هذه الصفة .
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } أى : كانت تلك الأكواب قوارير ، جمع قارورة ، وهى إناء رقيق من الزجاج توضع فيه الأشربة ، ونصبه على الحال ، فإن " كان " تامة ، وهو كما تقول : خلقت قوارير . وقوله - تعالى - : { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } بدل .
والمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ، ولون الفضة وبياضها .
وقرأ نافع والكسائى وأبو بكر بتنوين { قَوَارِيرَاْ } فى الموضعين وصلا ، وإبداله ألفا وقفا . وابن كثير يمنع صرف الثانى ويصرف الأول . . والقراءة بمنع صرفهما للباقين .
وقال الشوكانى : وجملة " قدرها تقديرا " صفة لقوارير . . أى : قدرها السقاة من الخدم ، الذين يطوفون عليهم على قدر ما يحتاج إليه الشاربون من أهل الجنة ، من دون زيادة ولا نقصان . . ، وقيل : قدرها الملائكة . وقيل : قدرها الشاربون لها من أهل الجنة على مقدار حاجتهم ، فجاءت كما يريدون فى الشكل لا تزيد ولا تنقص . .
ويطاف عليهم بآنية من فضة ، وأكواب كانت قوارير ، قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا . عينا فيها تسمى سلسبيلا . .
فهم في متاعهم . متكئين على الأرائك بين الظلال الوارفة والقطوف الدانية والجو الرائق . . يطاف عليهم بأشربة في آنية من فضة ، وفي أكواب من فضة كذلك ، ولكنها شفة كالقوارير ،
وقوله : وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ وأكْوَابٍ كانَتْ قَوَارِيرا يقول تعالى ذكره : ويُطاف على هؤلاء الأبرار بآنية من الأواني التي يشربون فيها شرابهم ، هي من فضة كانت قوارير ، فجعلها فضة ، وهي في صفاء القوارير ، فلها بياض الفضة وصفاء الزجاج . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ وأكْوابٍ كانَتْ قَوَارِيرَ يقول : آنية من فضة ، وصفاؤها وتهيؤها كصفاء القوارير .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد من فضة ، قال : فيها رقة القوارير في صفاء الفضة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قَوَارِيرَ مِنْ فِضّةٍ قال : صفاء القوارير وهي من فضة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بآنِيَةٍ مِنْ فِضّةٍ أي صفاء القوارير في بياض الفضة .
وقوله : وأكْوابٍ يقول : ويُطاف مع الأواني بجرار ضِخام فيها الشراب ، وكلّ جرّة ضخمة لا عروة لها فهي كوب ، كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد وأكْوَابٍ قال : ليس لها آذان . وقد :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان بهذا الحديث بهذا الإسناد عن مجاهد ، فقال : الأكواب : الأقداح .
وقوله : كانَتْ قَوَارِيرَ يقول : كانت هذه الأواني والأكواب قوارير ، فحوّلها الله فضة . وقيل : إنما قيل : ويطاف عليهم بآنية من فضة ، ليدلّ بذلك على أن أرض الجنة فضة ، لأن كل آنية تُتّخذ ، فإنما تُتّخذ من تُرْبة الأرض التي فيها ، فدلّ جلّ ثناؤه بوصفة الاَنية متى يطاف بها على أهل الجنة أنها من فضة ، ليعلم عباده أن تربة أرض الجنة فضة .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله «قوارير ، وسلاسل » ، فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والكوفة غير حمزة : سلاسلاً ، وقواريرا قَوارِيرا بإثبات الألف والتنوين وكذلك هي في مصاحفهم وكان حمزة يُسْقط الألِفات من ذلك كله ، ولا يجري شيئا منه وكان أبو عمرو يُثبت الألف في الأولى من قوارير ، ولا يثبتها في الثانية ، وكلّ ذلك عندنا صواب ، غير أن الذي ذَكَرت عن أبي عمرو أعجبهما إليّ ، وذلك أن الأوّل من القوارير رأس آية ، والتوفيق بين ذلك وبين سائر رؤوس آيات السورة أعجب إليّ إذ كان ذلك بإثبات الألفات في أكثرها .