اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَيُطَافُ عَلَيۡهِم بِـَٔانِيَةٖ مِّن فِضَّةٖ وَأَكۡوَابٖ كَانَتۡ قَوَارِيرَا۠} (15)

قوله : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ } لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم ، وقد وصف الأواني التي يشرب بها ، ومعنى «يطاف » أي : يدور على هؤلاء الأبرار والخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة .

قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء{[58904]} ، أي : الذي في الجنة أشرف وأعلا ، ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى : يُسقوْنَ في أواني الفضة ، وقد يسقون في أواني الذهب ، كما قال تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي والبرد ، فنبه بذكر أحدهما على الأخرى . قوله : «بآنية » هذا هو القائم مقام الفاعل ؛ لأنه هو المفعول به في المعنى ، ويجوز أن يكون «عليهم » .

و«آنية » جمع إناء ، والأصل : «أأنية » بهمزتين ، الأولى مزيدة للجمع ، والثانية فاء الكلمة ، فقلبت الثانية ألفاً وجوباً ، وهذا نظير : كساء وأكسية ، وغطاه وأغطية ، ونظيره في صحيح اللام : حمار وأحمرة .

وقوله : { مِّن فِضَّةٍ } نعت ل «آنية » .

قوله : { وَأَكْوابٍ } . الأكواب هي الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى ، الواحد منها كوب ؛ وقال عدي : [ السريع ]

5045- مُتَّكِئاً تُقْرَعُ أبْوابهُ *** يَسْعَى عليْه العَبْدُ بالكُوبِ{[58905]}

قوله : { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } . اختلف القراءُ في هذين الحرفين بالنسبة إلى التنوين وعدمه ، وفي الوقوف بالألف وعدمها ، كما تقدم خلافهم في «سلاسل » .

واعلم أن القراء فيهما على خمس مراتب :

إحداها{[58906]} : تنوينهما معاً والوقف عليهما بالألف لنافع والكسائي وأبي بكر .

الثانية : مقابلة هذه ، وهي عدم تنوينهما ، وعدم الوقف عليهما بالأف ، لحمزة وحده .

الثالثة : عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف وعلى الثاني بدونها لهشام وحده .

والرابعة : تنوين الأول دون الثاني ، والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها لابن كثير وحده .

الخامسة : عدم تنوينهما معاً ، والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها ، لأبي عمرو ، وابن ذكوان ، وحفص .

فأما من نونهما فكما مرّ في تنوين «سلاسل » ؛ لأنها صيغة منتهى الجموع ، ذاك على «مفاعل » وذا على «مفاعيل » ، والوقف بالألف التي هي بدل من التنوين ، وفيه موافقة للمصاحف المرسومة ، فإنهما مرسومان فيهما بالألف على ما نقل أبو عبيد .

وأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف عليهما فظاهر جدًّا .

وأما من نون الأول دون الثاني ، فإنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ولم يناسب بين الثاني والأول والوجه في وقفه على الأول بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر .

وقد روى أبو عبيد أنه كذلك في مصاحف أهل «البصرة » .

وأما من لم ينونهما ، ووقف على الأول بالألف وعلى الثاني بدونها ، فلأن الأول رأس آية ، فناسب بينه وبين رءوس الآي في الوقف بالألف ، وفرق بينه وبين الثاني ؛ لأنه ليس برأس آية .

وأما من لم ينونهما ، ووقف عليهما بالألف ، فلأنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ، وناسب بين الثاني وبين الأول .

وحصل مما تقدم في «سَلاسِلا » وفي هذين الحرفين ، أن القراء منهم من وافق مصحفه ، ومنهم من خالفه لاتباع الأثر . وتقدم الكلام على «قوارير » في سورة «النمل »{[58907]} ولله الحمد .

وقال الزمخشري : «وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لإتباعه الأول » . يعني أنهم يأتون بالتنوين بدلاً من حرف الإطلاق الذي للترنم ؛ كقوله : [ الرجز ]

5046- *** يَا صَاحِ ، مَا هَاجَ الدُّمُوعَ الذُّرَّفَنْ{[58908]}***

وفي انتصاب «قوارير » وجهان :

أظهرهما : أنه خبر «كان » .

والثاني : أنها حال و«كان » تامة ، أي كونت فكانت .

قال أبو البقاء : «وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها ، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف » .

وقرأ الأعمش{[58909]} : «قَوَارِيرُ » بالرفع ، على إضمار مبتدأ ، أي : هي قوارير .


[58904]:ينظر القرطبي (19/91).
[58905]:تقدم.
[58906]:تنظر هذه الوجوه في: السبعة 664، والحجة، 6/348، وإعراب القراءات 2/420-421، وحجة القراءات 739.
[58907]:آية 44.
[58908]:الرجز للعجاج ينظر ديوانه 2/219، وتخليص الشواهد ص 47، وخزانة الأدب 3/443، وشرح أبيات سيبويه 2/351، والكتاب 4/207، والمقاصد النحوية 1/26، والإيضاح ص 19.
[58909]:ينظر: البحر المحيط 8/389، والدر المصون 6/445.