قوله تعالى : { أغير الله أبغيكم } أي أبغي لكم وأطلب .
قوله تعالى : { إلهاً وهو فضلكم على العالمين } أي : على عالمي زمانكم . أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري ، أنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار ، أنا أبو بكر محمد بن زكريا العذافري ، أنا إسحاق بن إبراهيم الدبري ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الديلي ، عن أبي واقد الليثي ، قال : " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما كان للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } لتركبون سنن من قبلكم " .
ثم مضى موسى عليه السلام - يستنكر عليهم هذا الطلب ، ويبين لهم أن الله وحده هو المستحق للعبادة فقال : { أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } .
أى قال موسى - عليه السلام مذكرا قومه بنعم الله عليهم الموجبة لإفراده بالعبادة والخضوع : أغير الله أطلب لكم معبوداً أحملكم على العبودية له ، وهو فضلكم على عالمى زمانكم ، وقد كان الواجب عليكم أى تخصوه بالعبادة ، كما اختصكم هو بشتى النعم الجليلة . فالاستفهام في الآية الكريمة للانكار المشرب معنى التعجب لابتغائهم معبودا سوى الله - تعالى - الذي غمرهم بنعمه ، وأحاطهم بألوان إحسانه .
و " غير " كما قال الجمل - منصوب على أنه مفعول به لأبغيكم على حذف اللام والتقدير : أأبغى لكم غير الله إلها ، فلما حذف الحرف وصل الفعل بنفسه وهو غير منقاس . و " إلها " تمييز لغير .
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى - عليه السلام - على ربه والغضب له - سبحانه - والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم - وهي حاضرة ظاهرة - :
( قال : أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين ؟ ) . .
والتفضيل على العالمين - في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين . وليس وراء ذلك فضل ولا منة . فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة . كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة - التي كانت إذ ذاك في أيد مشركة - فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهاً غير الله ؛ وهم في نعمته وفضله يتقلبون ؟ !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلََهاً وَهُوَ فَضّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : قال موسى لقومه : أسوى الله ألتمسكم إلها وأجعل لكم معبودا تعبدونه ، والله الذي هو خالقكم ، فضّلكم على عالمي دهركم وزمانكم يقول : أفأبغيكم معبودا لا ينفعكم ولا يضرّكم تعبدونه وتتركون عبادة من فضلكم على الخلق ؟ إن هذا منكم لجهل .
وقوله تعالى : { قال أغير الله } الآية ، أمر الله موسى عليه السلام أن يوقفهم ويقررهم على هذه المقالة ، ويحتمل أن يكون القول من تلقائه عليه السلام ، { أبغيكم } معناه : أطلب لكم ، من بغيت الشيء إذا طلبته ، و { غير } منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر ويحتمل أن ينتصب على الحال كأن تقدير الكلام : قال أبغيكم إلهاً غير الله فهي في مكان الصفة فلما قدمت نصبت على الحال ، و { العالمين } لفظ عام يراد به تخصيص عالم زمانهم ، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بإجماع ، ولقوله تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } اللهم إلا أن يراد بالفضل كثرة الأنبياء منهم فإنهم فضلوا في ذلك على العالمين بالإطلاق .
إعادة لفظ { قال } مستأنفاً في حكاية تكملة جواب موسى بقوله تعالى : { قال أغير الله أبغيكم } تقدم توجيه نظيره عند قوله تعالى : { قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو } إلى قوله { قال فيها تحيون } من هذه السورة ( 24 ، 25 ) .
والذي يظهر أنه يعاد في حكاية الأقوال إذا طال المقول ، أو لأنه انتقال من غرض التوبيخ على سؤالهم إلى غرض التذكير بنعمة الله عليهم ، وأن شكر النعمة يقتضي زجرهم عن محاولة عبادة غير المنعم ، وهو من الارتقاء في الاستدلال على طريقة التسليم الجدَلي ، أي : لو لم تكن تلك الآلهة باطلاً لكان في اشتغالكم بعبادتها والإعراض عن الإله الذي أنعم عليكم كفران للنعمة ونداء على الحماقة وتنزه عن أن يُشاركهم في حماقتهم .
والاستفهام بقوله : { أغير الله أبغيكم إلاهاً } للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلاهاً غير الله ، وقد أوليَ المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلاهاً ، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص ، للمبالغة في الإنكار أي : اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلاهاً .
وهمزة { أبغيكم } همزة المتكلم للفعل المضارع ، وهو مضارع بغَى بمعنى طلب ، ومصدره البَغاء بضم الباء .
وفعله يتعدى إلى مفعول واحد ، ومفعوله هو { غيرَ الله } لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه .
وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال ، وأصل الكلام : أبغي لكم و { إلاهاً } تمييز ل { غير } .
وجملة : { وهو فضلكم على العالمين } في موضع الحال ، وحين كان عاملها محَل إنكار باعتبار معموله ، كانت الحال أيضاً داخلة في حيز الإنكار ، ومقررة لجهته .
وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوماً عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار ، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق .
ومجيء المسند فعلياً : ليفيد تقديم المسند إليه عليه تخصيصه بذلك الخبر الفعلي أي : وهو فضلكم ، لم تفضلكم الأصنام ، فكان الإنكار عليهم تحميقاً لهم في أنهم مغمورون في نعمة الله ويطلبون عبادة ما لا يُنعم .
والمرادُ بالعالمين : أممُ عصرهم ، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياءَ ، وبأن منهم رسلاً وأنبياء ، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه ، وبأنه جعلهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً ، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته ، وبعث فيهم رسولاً ليقيم لهم الشريعة . وهذه الفضائِل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذٍ ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم ، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذَ أصنام مثلهم ، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول ، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافاً بأنه أرجح رأياً وأحسن حالاً ، في تلك الناحية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} لهم موسى: {أغير الله أبغيكم إلها}، يعني ربا، {وهو فضلكم على العالمين}، يعني عالمي أهل مصر حين أنجاكم وأهلكهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال موسى لقومه: أسوى الله ألتمسكم إلها وأجعل لكم معبودا تعبدونه، والله الذي هو خالقكم، فضّلكم على عالمي دهركم وزمانكم يقول: أفأبغيكم معبودا لا ينفعكم ولا يضرّكم تعبدونه وتتركون عبادة من فضلكم على الخلق؟ إن هذا منكم لجهل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وهو فضّلكم على العالمين} بما هداكم، ووفّقكم للهداية بما لم يوفّق، ولم يهد أحدا من العالمين من عالمي زمانكم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذكَّرهم انفرادَه -سبحانه- بإنشائهم وإبداعهم، وأنه هو الإله المتفرد بالإيجاد، ونَبَّهَهُم أيضاً على عظيم نعمته عليهم، وأنه ليس حقُّ إتمام النعمة عليهم مقابلتَهم إياها بالتولِّي لغيره والعبادة لِمَنْ سواه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبوداً، وهو فعل بكم ما فعل دون غيره، من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحد غيركم، لتختصوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره. ومعنى الهمزة: الإنكار والتعجب من طلبتهم -مع كونهم مغمورين في نعمة الله- عبادة غير الله.
والمعنى: أن الإله ليس شيئا يطلب ويلتمس ويتخذ، بل الإله هو الله الذي يكون قادرا على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم، وهو المراد من قوله: {وهو فضلكم على العالمين} فهذا الموجود هو الإله الذي يجب على الخلق عبادته، فكيف يجوز العدول عن عبادته إلى عبادة غيره.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلا بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام؛ بدأهم أولاً بنسبتهم إلى الجهل، ثم ثانياً أخبرهم بأن عبّاد الأصنام ليسوا على شيء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل، وثالثاً أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلهاً أي {أغير} المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبوداً وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلهاً غيره.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يذكِّرهم موسى، عليه السلام، بنعمة الله عليهم، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره، وما كانوا فيه من الهوان والذلة، وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
أيد هذا الإنكار بما يعرفون من آيات الله تعالى فيهم، وهو تفضيلهم على أهل زمانهم، فقد كان أرقى الناس في ذلك العصر فرعون وقومه بما أوتوا من العلم والقوة والحضارة وسعة الملك ومن السيادة على بعض الشعوب، وقد فضل الله بني إسرائيل عليهم، برسالة موسى وهارون منهم، وتجديد ملة إبراهيم فيهم، وإيتائهما من الآيات ما تقدم بيانه وأثره في السياق الذي قبل هذا، وقيل إن المراد تفضيلهم على العالمين مطلقا بكثرة الأنبياء والمرسلين منهم، والأول أظهر، لأنه عليه السلام احتج عليهم بما عرفوا فيبعد أن يراد به تفضيلهم على القرون الأولى وأقوام رسلهم وعلى من سيأتي بعدهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ترتفع نغمة الغيرة في كلمات موسى -عليه السلام- على ربه والغضب له -سبحانه- والتعجب من نسيان قومه لنعمة الله عليهم -وهي حاضرة ظاهرة -: (قال: أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين؟).. والتفضيل على العالمين- في زمانهم يتجلى في اختيارهم لرسالة التوحيد من بين المشركين. وليس وراء ذلك فضل ولا منة. فهذا ما لا يعدله فضل ولا منة. كما أنه اختارهم ليورثهم الأرض المقدسة -التي كانت إذ ذاك في أيد مشركة- فكيف بعد هذا كله يطلبون إلى نبيهم أن يطلب لهم إلهاً غير الله؛ وهم في نعمته وفضله يتقلبون؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام بقوله: {أغير الله أبغيكم إلاهاً} للإنكار والتعجب من طلبهم أن يجعل لهم إلاهاً غير الله، وقد أوليَ المستفهم عنه الهمزة للدلالة على أن محل الإنكار هو اتخاذ غير الله إلاهاً، فتقديم المفعول الثاني للاختصاص، للمبالغة في الإنكار أي: اختصاص الإنكار ببغي غير الله إلاهاً.
وهمزة {أبغيكم} همزة المتكلم للفعل المضارع، وهو مضارع بغَى بمعنى طلب، ومصدره البَغاء بضم الباء.
وفعله يتعدى إلى مفعول واحد، ومفعوله هو {غيرَ الله} لأنه هو الذي ينكر موسى أن يكون يبغيه لقومه.
وتعديته إلى ضمير المخاطبين على طريقة الحذف والإيصال، وأصل الكلام: أبغي لكم و {إلاهاً} تمييز ل {غير}.
وجملة: {وهو فضلكم على العالمين} في موضع الحال، وحين كان عاملها محَل إنكار باعتبار معموله، كانت الحال أيضاً داخلة في حيز الإنكار، ومقررة لجهته.
وظاهر صوغ الكلام على هذا الأسلوب أن تفضيلهم على العالمين كان معلوماً عندهم لأن ذلك هو المناسب للإنكار، ويحتمل أنه أراد إعلامهم بذلك وأنه أمر محقق.
.. والمرادُ بالعالمين: أممُ عصرهم، وتفضيلهم عليهم بأنهم ذرية رسول وأنبياءَ، وبأن منهم رسلاً وأنبياء، وبأن الله هداهم إلى التوحيد والخلاص من دين فرعون بعد أن تخبطوا فيه، وبأنه جعلهم أحراراً بعد أن كانوا عبيداً، وساقهم إلى امتلاك أرض مباركة وأيدهم بنصره وآياته، وبعث فيهم رسولاً ليقيم لهم الشريعة. وهذه الفضائِل لم تجتمع لأمة غيرهم يومئذٍ، ومن جملة العالمين هؤلاء القوم الذين أتوا عليهم، وذلك كناية عن إنكار طلبهم اتخاذَ أصنام مثلهم، لأن شأن الفاضل أن لا يقلد المفضول، لأن اقتباس أحوال الغير يتضمن اعترافاً بأنه أرجح رأياً وأحسن حالاً، في تلك الناحية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إنه تفضيل النعمة التي يختص الله بها بعض عباده لحكمةٍ هناك، لا تفضيل القيمة التي يرفع بها بعض عباده على بعض درجات في قربهم منه ومن رضوانه ورحمته إنه يذكرهم بهذه النعم ليفكروا ويقارنوا، ليأخذوا النتيجة الحاسمة، وهي أن لا شيء غير الله يمكن أن يعطي الإنسان أيّة نعمة في حياته، لأنه لا يملك حتى لنفسه نفعاً ولا ضراً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يعني إذا كان الدافع إلى عبادة الله هو حسّ الشكر، فجميع النعم التي ترفلون فيها هي من الله، وإذا كان الدافع للعبادة والعبودية كون هذه العبادة منشأ لأثر ما، فإنّ ذلك أيضاً يرتبط بالله سبحانه، وعلى هذا الأساس مهما يكن الدافع، فليس سوى الله القادر المنّان يصلح للعبادة ومستحقاً لها. وفي الآية اللاحقة يذكر القرآن الكريم إحدى النعم الإِلهية الكبرى التي وهبها الله سبحانه لبني إسرائيل، ليبعث بالالتفات إلى هذه النعمة الكبرى حسّ الشكر فيهم، وليعلموا أن اللائق بالخضوع والعبادة هو الذات الإِلهية المقدسة فحسب، وليس هناك أي دليل يسوّغ لهم الخضوع أمام أصنام لا تضر ولا تنفع شيئاً أبداً.