وقوله - سبحانه - : { ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة } بيان للأسباب التى جعلتهم محل غضب الله ونقمته .
واسم الإِشارة : " ذلك " ، يعود إلى كفرهم بعد إيمانهم ، أو إلى ما توعدهم الله - تعالى - به من غضب عليهم ، وعذاب عظيم لهم .
أي : ذلك الذي جعلهم يرتدون عن دينهم ، ويكونون محل غضب الله ونقمته ، من أسبابه أنهم آثروا الحياة الدنيا وشهواتها على الآخرة وما فيها من ثواب .
{ وأن الله } - تعالى - { لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } ، إلى الصراط المستقيم ؛ لأنهم حين زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّهُمُ اسْتَحَبّواْ الْحَيَاةَ الْدّنْيَا عَلَىَ الاَخِرَةِ وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره : حلّ بهؤلاء المشركين غضب الله ، ووجب لهم العذاب العظيم ، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الاَخرة ؛ ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم على جحودها .
قوله : { ذلك } ، إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية{[7421]} ، والضمير في : { أنهم } ، ل { من شرح بالكفر صدراً } [ النحل : 106 ] ، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة ، لكن الأمر في نفسه بين ، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره ، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم ، وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب ، وقوله : { وأن الله لا يهدي } ، إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم ، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر ، فجمعت الآية بين الأمرين ، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة{[7422]} ، وقوله : { لا يهدي القوم الكافرين } ، عموم على أنه لا يهديهم من حيث إنهم كفار في نفس كفرهم ، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي .
هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها ، وإشارة ذلك إلى مضمون قوله { فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم } [ سورة النحل : 106 ] .
وضمير { بأنهم } عائد إلى { من كفر بالله } [ سورة النحل : 106 ] سواء كان ما صْدق { مَن } معيّناً أو مفروضاً على أحد الوجهين السابقين .
والباء للسببية ، فمدخولها سبب .
و { استحبّوا } مبالغة في ( أحبوا ) مثل استأخر واستكان . وضمن ( استحبّوا ) معنى ( فضّلوا ) فعدي بحرف ( على ) ، أي لأنهم قدّموا نفع الدنيا على نفع الآخرة ، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقّية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوفَ الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش ، فيكون كفرهم أشدّ من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة .
{ وأن الله لا يهدى القوم الكافرين } سبب ثَان للغضب والعذاب ، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر . وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى : { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله } [ سورة النحل : 104 ] .
وهو تذييل لِما في صيغة { القوم الكافرين } من العموم الشامل للمتحدّث عنهم وغيرهم ، فليس ذلك إظهاراً في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص .
وإقحام لفظ ( قوم ) للدّلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكّن منهم وصار سجيّة حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصفُ .
وقد تقدّم أن جريان وصف أو خبر على لفظ ( قوم ) يؤذن بأنه من مقوّمات قوميتهم كما في قوله تعالى : { لآيات لقوم يعقلون } في سورة البقرة ( 164 ) ، وقوله تعالى : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } في سورة يونس ( 101 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك}، الغضب والعذاب، {بأنهم استحبوا}، يعني: اختاروا،
{الحياة الدنيا} الفانية {على الآخرة} الباقية،
{وأن الله لا يهدي} إلى دينه، {القوم الكافرين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: حلّ بهؤلاء المشركين غضب الله، ووجب لهم العذاب العظيم، من أجل أنهم اختاروا زينة الحياة الدنيا على نعيم الاَخرة؛ ولأن الله لا يوفق القوم الذين يجحدون آياته مع إصرارهم على جحودها...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
"استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة" 609- أي: ركنوا إليها...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله: {ذلك}، إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية 5، والضمير في: {أنهم}، ل {من شرح بالكفر صدراً}، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا مصدقين بآخرة، لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم، وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب...
{استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} أي رجحوا الدنيا على الآخرة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من يرجع إلى الظلمات بعد خروجه منها إلى النور جديراً بالتعجب منه، كان كأنه قيل: لم يفعلون، أو لم يفعل بهم ذلك؟ فقال تعالى: {ذلك}، الارتداد أو الوعيد العظيم، {بأنهم}، أي: بسبب أنهم، {استحبوا}، أي: أحبوا حباً عظيماً، {الحياة الدنيا}، أي: الدنيئة الحاضرة الفانية، فآثروها {على الآخرة} الباقية الفاخرة؛ لأنهم رأوا ما فيه المؤمن من الضيق والكافر من السعة، {و} بسبب {أن الله}، أي: الملك الذي له الغنى الأكبر، {لا يهدي القوم الكافرين}، الذين علم استمرارهم عليه، بل يخذلهم ويسلط الشيطان عليهم، يجتالهم عن دينهم.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
لما بيّن تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين، في المحاماة عن الدين، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى، من الوعد الشديد بهذه الآيات. واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله. فإنه إذا وافق المشركين بلفظ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل، فلا جناح عليه. إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرا، أي: طاب به نفسا واعتقده، استحبابا للحياة الدنيا الفانية، أي: إيثارا لها على الآخرة الباقية، فذاك الذي له من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة، من غضب عليهم أولا.
وعذابه العظيم لهم، وهو عذاب النار ثانيا.
وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا.
ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها. فلم ينفتح لهم طريق الفهم. وعلى سمعهم وأبصارهم بسدّ طريق المعنى المراد من مسموعاتهم، وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب. فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور. ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع.
وخامسا بكونهم هم الغافلين، بالحقيقة، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه. وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب. وجليّ، أن كل نقمة من هذه الخمس، على انفرادها، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات. فكيف بها كلها!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة واقعة موقع التعليل فلذلك فصلت عن التي قبلها... والباء للسببية، فمدخولها سبب...
و {استحبّوا} مبالغة في (أحبوا) مثل استأخر واستكان. وضمن (استحبّوا) معنى (فضّلوا) فعدي بحرف (على)، أي لأنهم قدّموا نفع الدنيا على نفع الآخرة، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقّية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوفَ الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش، فيكون كفرهم أشدّ من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة...
وإقحام لفظ (قوم) للدّلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكّن منهم وصار سجيّة حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصفُ...
استحب: أي: آثر وتكلف الحب؛ لأن العاقل لو نظر إلى الدنيا بالنسبة لعمره فيها لوجدها قصيرة أحقر من أن تحب لذاتها، ولوجد الأغيار بها كثيرة تتقلب بأهلها فلا يدوم لها حال، ينظر فإذا الأحوال تتبدل من الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى السقم، ومن القوة إلى الضعف، فكيف إذن تستحب الدنيا على الآخرة؟!...
والحق تبارك وتعالى يريد منا أن نعطي كلاً من الدنيا والآخر ما يستحقه من الحب، فنحب الدنيا دون مبالغة في حبها، نحبها على أنها مزرعة للآخرة، وإلا فكيف نطلب الجزاء والثواب من الله؟ لذلك نقول: إن الدنيا أهم من أن تنسى، وأتفه من أن تكون غاية، وقد قال الحق سبحانه: {ولا تنس نصيبك من الدنيا.. "77 "} (سورة القصص)...
المتأمل لمعنى الآية يجد أن الحق سبحانه يجعل الدنيا شيئاً هيناً معرضاً للنسيان والإهمال، فيذكرنا بها، ويحثنا على أن نأخذ منها بنصيب... ويكفينا وصف هذه الحياة بالدنيا، فليس هناك وصف أقل من هذا الوصف، والمقابل لها يقتضي أن نقول: العليا وهي الآخرة، نعم نحن لا ننكر قدر الحياة الدنيا ولا نبخسها حقها، ففيها الحياة والحس والحركة، وفيها العمل الصالح والذكرى الطيبة.. الخ. ولكنها مع ذلك إلى زوال وفناء، في حين أن الآخرة هي الحياة الحقيقية الدائمة الباقية التي لا يعتريها زوال، ولا يهددها موت، كما قال الحق سبحانه: {وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} (سورة العنكبوت 64)، أي: الحياة الحقيقية التي يجب أن نحرص عليها ونحبها. ومن ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} (سورة الأنفال 24)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{اسْتَحَبُّواْ}: آثروا وقدموا.
{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخرةِ}، فاستسلموا لإغراءات الكفر وامتيازاته وشهواته، لما اعتبروا في ذلك من مظهر للسعادة الذاتية، ولم يفكروا بالآخرة، كوجهٍ من وجوه النشاط الإنساني الخيّر في الدنيا، وكمصيرٍ في ساحة النتائج العملية في الآخرة؛ لأن قيمة الآخرة أنها تعطي الدنيا معناها، فتحول أعمال الدنيا إلى أعمال للآخرة، كما تتدخل في تحديد المصير السعيد أو الشقي في الدار الآخرة. وبذلك كانت الحياة الآخرة هي الهدف الذي يريد الله للناس أن يسعوا إليه في حياتهم الدنيا، لما تمثله في خط السير من قيمٍ ومبادئ وأعمال، ولا يريدهم أن يستغرقوا في الدنيا، بما تمثله من لحظاتٍ فانيةٍ وشهوات زائلة ونتائج واهية. {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} بل يتركهم لضلالهم الذي اختاروه لأنفسهم بعد أن أقام عليهم الحجة، حيث لا مجال لأيّ عذر، من قريب أو من بعيد.