القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِيَءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ * وَتَوكّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرّحِيمِ * الّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ * إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم ، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان ، والإشراك بالرحمن ، فقل لهم : إنّي بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ من عبادة الأصنام ومعصية باريء الأنام وَتَوَكّلْ عَلى العَزِيزِ في نقمته من أعدائه الرّحِيمِ بمن أناب إليه وتاب من معاصيه ، الّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ يقول : الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك . وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد ، قوله : الّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ قال : أينما كنت .
وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم ، ثم تركع ، وحين تسجد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ يقول : قيامك وركوعك وسجودك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت أبي وعليّ بن بذيمة يحدّثان عن عكرِمة في قوله : يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : قيامه وركوعه وسجوده .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : قال عكرِمة ، في قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : قائما وساجدا وراكعا وجالسا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويرى تقلبك في المصلين ، وإبصارك منهم من هو خلفك ، كما تبصر من هو بين يديك منهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ كان يرى من خلفه ، كما يرى من قدّامه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : المصلين كان يرى مَن خلفه في الصلاة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : المصلين ، قال : كان يرى في الصلاة من خلفه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتقلبك مع الساجدين : أي تصرفك معهم في الجلوس والقيام والقعود . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جُرَيج : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قال : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : يراك وأنت مع الساجدين تَقَلّب وتقوم وتقعد معهم .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : في المصلين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : في الساجدين : المصلين .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ويرى تصرّفك في الناس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا ربيعة بن كلثوم ، قال : سألت الحسن عن قوله : وَتَقَلّبَكَ فِي السّاجِدِينَ قال : في الناس .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله ، والساجدون في قول قائل هذا القول : الأنبياء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : الّذِي يَرَاكَ . . . الاَية ، قال : كما كانت الأنبياء من قبلك .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله : ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك ، حين تقوم معهم وتركع وتسجد ، لأن ذلك هو الظاهر من معناه . فأما قول من وجّهه إلى أن معناه : وتقلبك في الناس ، فإنه قول بعيد من المفهوم بظاهر التلاوة ، وإن كان له وجه ، لأنه وإن كان لا شيء إلا وظله يسجد لله ، فإنه ليس المفهوم من قول القائل : فلان مع الساجدين ، أو في الساجدين ، أنه مع الناس أو فيهم ، بل المفهوم بذلك أنه مع قوم سجود ، السجودَ المعروف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأغلب أولى من توجيهه إلى الأنكر . وكذلك أيضا في قول من قال : معناه : تتقلّب في أبصار الساجدين ، وإن كان له وجه ، فليس ذلك الظاهر من معانيه .
فتأويل الكلام إذن : وتوكل على العزيز الرحيم ، الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك ، ويرى تقلبك في المؤتمين بك فيها بين قيام وركوع وسجود وجلوس .
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية . وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته . وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم . وروي عن ابن جريج أن المؤمنين من غير عشيرته في ذلك الوقت نالهم من هذا التخصيص وخروجهم منه فنزلت { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين } ، ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه النذارة عظم موقع الأمر عليه وصعب ولكنه تلقاه بالجلد ، وصنع أشياء مختلفة كلها بحسب الأمر ، فمن ذلك أنه أمر علياً رضي الله عنه بأن يصنع طعاماً وجمع عليه بني جده عبد المطلب وأراد نذارتهم ودعوتهم في ذلك الجمع وظهر منه عليه السلام بركة في الطعام ، قال علي وهم يومئذ أربعون رجلاً ينقصون رجلاً أو يزيدونه ، فرماه أبو لهب بالسحر فوجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترق جمعهم من غير شيء ، ثم جمعهم كذلك ثانية وأنذرهم ووعظهم فتضاحكوا ولم يجيبوا{[1]} ، ومن ذلك أنه نادى عمه العباس وصفية عمته وفاطمة ابنته وقال لهم : «لا أغنى عنكم من الله شيئاً إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » في حديث مشهور{[2]} ، ومن ذلك أنه صعد على الصفا أو أبي قبيس ونادى «يا بني عبد مناف واصباحاه » فاجتمع إليه الناس من أهل مكة فقال يا بني فلان حتى أتى على بطون قريش جميعاً ، فلما تكامل خلق كثير من كل بطن . قال لهم «رأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد الغارة عليكم أكنتم مصدقي » قالوا نعم ، فإنا لم نجرب عليك كذباً ، فقال لهم «فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد » ، فقال له أبو لهب ألهذا جمعتنا تباً لك سائر اليوم فنزلت { تبت يدا أبي لهب }{[3]} [ المسد : 1 ] السورة ، و «العشيرة » قرابة الرجل وهي في الرتبة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، وخفض الجناح استعارة معناه لين الكلمة وبسط الوجه والبر .
والضمير في { عصوك } عائد على عشيرته من حيث جمعت رجالاً فأمره الله بالتبري منهم{[4]} وفي هذه الآية موادعة نسختها آية السيف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.