معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا} (89)

قوله عز وجل : { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } ، من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها ، { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } ، جحوداً .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا} (89)

ومع عجز المشركين عن الإِتيان بسورة من مثل القرآن الكريم إلا أنهم استمروا فى طغيانهم يعمهون ، وأبوا التذكر والتدبر ، ولقد صور - سبحانه - أحوالهم أكمل تصوير فقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } .

أى : ولقد صرفنا وكررنا ونوعنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل ، أى : من كل معنى بديع ، هو كالمثل فى بلاغته ، وإقناعه للنفوس ، وشرحه للصدور ، واشتماله على الفوائد الجمة . . .

ومفعول : { صرفنا } محذوف ، والتقدير : ولقد صرفنا الهدايات والعبر بوجوه متعددة . .

وقوله - سبحانه - : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } بيان لموقف الفاسقين عن أمر ربهم من هدايات القرآن الكريم وتوجيهاته ، وأوامره ونواهيه .

أى : فأبى أكثر الناس الاستجابة لهديه ، وامتنعوا عن الإِيمان بأنه من عند الله - تعالى - وجحدوا آياته وإرشاداته ، وعموا وصموا عن الحق الذى جاءهم به من نُزِّل عليه القرآن ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال - سبحانه - : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ } بالإِظهار فى مقام الإِضمار ، للتأكيد والتوضيح .

والمراد بأكثر الناس : أولئك الذين بلغهم القرآن الكريم ، واستمعوا إلى آياته وتوجيهاته وتشريعاته وآدابه ، ولكنهم استحبوا الكفر على الإِيمان ، وآثروا الضلالة على الهداية .

وعبر - سبحانه - بالأكثر ، إنصافاً للقلة المؤمنة التى فتحت صدورها للقرآن ، فآمنت به ، وعملت بما فيه من أوامر ونواه . .

قال الجمل : فإن قيل : كيف جاز قوله { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } حيث وقع الاستثناء المفرغ فى الإِثبات . مع أنه لا يصح ، إذ لا يصح أن تقول : ضربت إلا زبدا .

فالجواب : أن لفظة { أبى } تفيد النفى ، فكأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفورا .

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعلمه ، وفضله على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الناس ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .

ثم حكى - سبحانه - بعض المطالب المتعنتة التى طلبها المشركون من النبى صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً . . . } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا} (89)

{ ولقد صرّفنا } كررنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير والبيان . { للناس في هذا القرآن من كل مثلٍ } من كل معنى كالمثل في غرابته ووقوعه موقعها في الأنفس . { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } إلا جحودا ، وإنما جاز ذلك ولم يجز : ضربت إلا زيدا لأنه متأول بالنفي .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا} (89)

لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام ، مدمجاً في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثَل . وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه ، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال . وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في سورة [ البقرة : 26 ] . ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه .

فجملة { ولقد صرفنا } معطوفة على جملة { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز .

وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله ، فمورد التأكيد هو فعل { صرفنا } الدال على أنه من عند الله .

والتصريف تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } [ الإسراء : 41 ] .

وزيد في هذه الآية قيد { للناس } دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز ، فكان الناس مقصودين به قصداً أصلياً مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم .

ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل { صرفنا } على الآخر : أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقاً لتحديهم والحجة عليهم ، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تُقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية ، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارَفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالاً . ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر . والأظهر كون التعريف في { الناس } للعموم كما يقتضيه قوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } .

وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله : { من كل مثل } بخلاف الآية السابقة ، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز ، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزاً لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله ، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر ، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيِّن من جهتين ، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض ، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة [ البقرة : 23 ] { فأتوا بسورة من مثله } فإن ( من ) للتبعيض وتنوين ( مثل ) للتعظيم والتشريف ، أي من كل مثل شريف . والمراد : شرفه في المقصود من التمثيل .

و ( من ) في قوله : { من كل مثل } . للتبعيض ، و ( كل ) تفيد العموم ، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل .

وحذف مفعول { أبى } للقرينة ، أي أبى العمل به .

وفي قوله : { إلا كفوراً } تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي تأكيد في صورة النقص ، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة ، ثم يأتي المستثنى مؤكداً لمعنى المستثنى منه ، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة . وهو استثناء مُفرغ لما في فعل { أبى من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي ، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله : { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] .

والكُفور بضم الكاف المجحود ، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ فَأَبَىٰٓ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ إِلَّا كُفُورٗا} (89)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولقد صرفنا للناس}، يعني: ضربنا،

{في هذا القرآن من كل مثل}، يعني: من كل شبه في أمور شتى،

{فأبى أكثر الناس إلا كفورا} آية، يعني: إلا كفرا بالقرآن...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول ذكره: ولقد بيّنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل، احتجاجا بذلك كله عليهم، وتذكيرا لهم، وتنبيها على الحقّ ليتبعوه ويعملوا به.

"فَأبى أكْثَرُ النّاسِ إلاّ كُفُورا" يقول: فأبى أكثر الناس إلاّ جحودا للحقّ، وإنكارا لحجج الله وأدلته...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{ولقد صرفنا} أي بينا. ويحتمل: ضربنا ويحتمل: فرَّقْنَا {للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي ذكرنا للناس مثلا على إثر مثل، ومثلا بعد مثل، ما لو تفكروا فيه، وتأملوا لعرفوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب أنفسهم وسفههم، ولعرفوا الحق من الباطل والمُحِقَّ من المُبْطِلِ. ولكن لم يتفكروا فيه، ولم يتأملوا، وعاندوا...

{من كل مثل} لا يريد كل الأمثال، ولكن ما ذكر من كل مثل؛ وتفكروا لكان لهم معتبرا...

وفي قوله: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} يكون ما ذكر من تصريف الأمثال وضربها للناس وجوه ثلاثة:

أحدها: ضرب المَثَلَ لهذه الأمة لمن شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من مكذبهم ومصدقهم بالأمم الماضية؛ ماذا حل بالمكذبين منهم رسل الله من نقمته وعذابه؟ وقد أخبر أن تلك سنته في المكذبين منهم، وذكر أن سنته تلك، لا تحول، ولا تبدل، وهي غير مُحَوَّلَة ولا مُبَدَّلَة لواحدة من الأمم. والثاني: يحتمل تصريف الأمثال، هو ما بيَّنَ لهم، وذكر ما به صلاح معاشهم ومعادهم وصلاح دينهم ودنياهم، ما لو تأملوا فيها، وتفكروا، أدركوا ذلك. والثالث: يكون تصريف الأمثال التي ذكر دعاءه إلى دين الله وسبيله بالحكمة والموعظة الحسنة كقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} (النحل: 125)... وقوله تعالى: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} يحتمل {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} بالأمثال التي ضربها في القرآن وصرفها لهم. أو يقول: {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} بنعم الله في صرف الشكر إلى غيره، أو {كفورا} في وحدانية الله وألوهيته...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وتصريفه إياه هو توجيهه إياه في معان مختلفة. وقال الرماني: هو تصيير المعنى دائرا فيما كان من المعاني المختلفة. وذلك أنه لو أدير في المعاني المتفقة لم يعد ذلك تصريفا، فالتصريف تصيير المعنى دائرا في الجهات المختلفة...

الكفور -ههنا- هو الجحود للحق بالاستكبار.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} ردّدنا وكرّرنا {مِن كُلّ مَثَلٍ} من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُورًا}... كأنه قيل: فلم يرضوا إلا كفورا..

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} يحتمل أن يكون المراد منه التحدي كما شرحناه، ثم أنهم مع ظهور عجزهم في جميع هذه المراتب بقوا مصرين على كفرهم.

وثانيها: أن يكون المراد من قوله: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أنا أخبرناهم بأن الذين بقوا مصرين على الكفر مثل قوم نوح وعاد وثمود كيف ابتلاهم بأنواع البلاء وشرحنا هذه الطريقة مرارا وأطوارا ثم إن هؤلاء الأقوام يعني أهل مكة لم ينتفعوا بهذا البيان بل بقوا مصرين على الكفر.

وثالثها: أن يكون المراد أنه تعالى ذكر دلائل التوحيد ونفى الشركاء والأضداد في هذا القرآن مرارا كثيرة، وذكر شبهات منكري النبوة والمعاد مرارا وأطوارا، وأجاب عنها ثم أردفها بذكر الدلائل القاطعة على صحة النبوة والمعاد، ثم إن هؤلاء الكفار لم ينتفعوا بسماعها بل بقوا مصرين على الشرك وإنكار النبوة...

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل "أي وجهنا القول فيه بكل مثل يجب به الاعتبار، من الآيات والعبر والترغيب والترهيب، والأوامر والنواهي وأقاصيص الأولين، والجنة والنار والقيامة...

"فأبى أكثر الناس إلا كفورا" يريد أهل مكة، بين لهم الحق وفتح لهم وأمهلهم حتى تبين لهم أنه الحق، فأبوا إلا الكفر وقت تبين الحق...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان مبنى السورة على بيان العناية بالناس الذين اتقوا والذين هم محسنون، اقتضى المقام لمزيد الاهتمام تقديم قوله تعالى: {للناس} أي الذين هم ناس {في هذا القرءان} الهادي للتي هي أقوم {من كل مثل} أي من كل ما هو في غرابته وسيره في أقطار الأرض وبلاغته ووضوحه ورشاقته كالمثل الذي يجب الاعتبار به؛ والتصريف: تصيير المعنى دائراً في الجهات المختلفة بالإضافة والصفة والصلة ونحو ذلك، {فأبى} أي فتسبب عن ذلك الذي هو سبب للشفاء والشكر والهدى، تصديقاً لقولنا {ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} أنه أبى {أكثر الناس} وهم من هم في صورة الناس وقد سلبوا معانيهم. ولما كان "أبى "متأولاً بمعنى النفي، فكان المعنى: فلم يرضوا مع الكبر والشماخة، استقبله بأداة الاستثناء فقال تعالى: {إلا كفوراً} لما لهم من الاضطراب.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي: نوعنا فيه المواعظ والأمثال، وثنينا فيه المعاني التي يضطر إليها العباد، لأجل أن يتذكروا ويتقوا، فلم يتذكر إلا القليل منهم، الذين سبقت لهم من الله سابقة السعادة، وأعانهم الله بتوفيقه، وأما أكثر الناس فأبوا إلا كفورًا لهذه النعمة التي هي أكبر من جميع النعم، وجعلوا يتعنتون عليه [باقتراح] آيات غير آياته، يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج.. لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر، وشتى الأجيال والأطوار. (فأبى أكثر الناس إلا كفورا).

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام، مدمجاً في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثَل. وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال. وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى: {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما} في سورة [البقرة: 26]. ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه.

فجملة {ولقد صرفنا} معطوفة على جملة {قل لئن اجتمعت الإنس والجن} مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز.

وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله، فمورد التأكيد هو فعل {صرفنا} الدال على أنه من عند الله.

والتصريف تقدم آنفاً عند قوله تعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا} [الإسراء: 41].

وزيد في هذه الآية قيد {للناس} دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز، فكان الناس مقصودين به قصداً أصلياً مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم.

ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل {صرفنا} على الآخر: أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقاً لتحديهم والحجة عليهم، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تُقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارَفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالاً. ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. والأظهر كون التعريف في {الناس} للعموم كما يقتضيه قوله: {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً}.

وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله: {من كل مثل} بخلاف الآية السابقة، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزاً لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيِّن من جهتين، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة [البقرة: 23] {فأتوا بسورة من مثله} فإن (من) للتبعيض وتنوين (مثل) للتعظيم والتشريف، أي من كل مثل شريف. والمراد: شرفه في المقصود من التمثيل.

و (من) في قوله: {من كل مثل}. للتبعيض، و (كل) تفيد العموم، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل.

وحذف مفعول {أبى} للقرينة، أي أبى العمل به.

وفي قوله: {إلا كفوراً} تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي تأكيد في صورة النقص، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة، ثم يأتي المستثنى مؤكداً لمعنى المستثنى منه، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة. وهو استثناء مُفرغ لما في فعل {أبى من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله: {هل كنت إلا بشراً رسولاً} [الإسراء: 93].

والكُفور بضم الكاف المجحود، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{صرفنا} أي حولنا فيه ضروب القول من خبر إلى إنشاء ومن استنكار إلى إقرار ومن قصص فيها الموعظة الحسنة والعبرة المرشدة إلى أحكام شرعية مصلحة للآحاد الأسر والجماعة والأقاليم، رابطة بين الإنسانية في مجتمعات إلى آيات مبين للحقائق الإنسانية والطبائع في الجواب والكون والإنسان، وكان ذلك التصريف في هذا القرآن للناس من كل مثل... و (من) هنا بيانية، أي صرفنا لهم كل مثل، أي كل حال ذكرناها لتشاكلها مع الوجود الإنساني... {فأبى أكثر الناس إلا كفورا} وموضع الاستثناء هنا أن الإباء دخل على كثير فيقدر هكذا: فأبى أن يكثر كل شيء {إلا كفورا}، أي إلا أن يكونوا كافرين كفورا لازمهم، وصار وصفا من أوصافهم ولا حول ولا قوة إلا بالله...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

التصريف: هو التحويل والتنويع بأساليب مختلفة لزيادة البيان، والمراد أن القرآن الكريم لا يعالج القضايا بأسلوب رتيب جامد، بل يحول الكلام بين أساليب متعددة؛ لأنه يخاطب طباعاً متعددة، ويتعرض أيضاً لموضوعات متعددة ومعاني مختلفة، فلابد أن يصرف الأسلوب ويقلبه على أكثر من وجه، فالذي لا يفهم هذه يفهم هذه، فيعرض المعنى الواحد بأساليب متعددة وأمثال مختلفة...

وهكذا يصرف القرآن أسلوبه، ويحوله ليقنع به جميع العقول؛ ليناسب كل الطبائع. وتمتاز لغة العرب بالمثل والحكمة؛ لذلك كان من التصريف في أسلوب القرآن استخدام المثل، وهو تعبير موجز، يحمل المعاني الكثيرة وتتعشق لفظه، وتقوله كما هو دون تغيير إذا جاءت مناسبته.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} التصريف هو التكرير الذي تتنوّع فيه الأساليب والكلمات، وتلتقي عند هدف واحد في التوعية المنفتحة على آفاق الحق في العقيدة والتشريع وحركة الحياة، وفي تركيز الإرادة على الصلابة في الموقف، في عملية الاختيار التي لا تهتز ولا تتزلزل أمام كل الضغوط النفسية المنطلقة من التهاويل والأضاليل والتحديات والمتغيرات المتنوّعة القادمة من كل اتجاه، من خلال ما يمارسه الكافرون والمضلّلون والمنحرفون من وسائل وأساليب. لقد جاء القرآن ليواجه حاجة الإنسان إلى التنوّع في انطلاقته في الحياة، فأراده أن يتحرك من خلال المنهج السائر على خط الفكر والتجربة والمعاناة، وهداه إلى الآفاق التي يمكن لها أن توسع نظرته، وإلى المواقع التي يمكن لها أن تغني تجربته، وإلى المواقف التي يمكن أن تحدد له طريقه وتركّز له هدفه. وهكذا فإن القرآن منطلق فكر ومنهج حركة، من أجل أن يهتدي الإنسان إلى قيادة نفسه في الاتجاه السليم وإلى قيادة الحياة والآخرين إلى النهج الأقوم، الذي ينفتح على الله في أكثر من أفقٍ للمعرفة، وينفتح على المعرفة في أكثر من مجال. ولكن الإنسان ينسى نفسه وينسى ربه، فينسى موقعه في الكون، ودوره في حركة المسؤولية وفي استلهام الوحي الإلهي في ما يحتاجه من قضايا المصير، فيعيش الّلامبالاة التي توحي له بالعبث والهروب من مواجهة الواقع المسؤول، فيكفر بالله، وتتعاظم ضغوط الغريزة والانحراف في حياته، المتمثلة في سلوك الأكثرية كما أشار الله إلى ذلك: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} بالله وبالحق المنطلق من مواقع العقل، الذي يكتشف الحقيقة في صفاء الفطرة والوجدان، ومن مواقع الوحي، الذي يخطط لحركتها في التفاصيل الدقيقة من حياة الإنسان... وتلك هي فكرة القرآن عن الأكثرية في المجتمع، في حديثه المتكرر عن انحرافها عن خط الاستقامة في العقيدة والعمل، لأنها تتحرك في مجرى التيار الانفعالي الذي ينطلق من تأثير الغريزة، ومن التعاطي السطحي الذي يغري بالسهولة في مواجهة القضايا الحيوية في حركة الإنسان في الفكر والواقع، ومن عمق العلاقة بالمنفعة المادية في ما يواجهه من سلوكٍ وتطلّعٍ، ما يجعلها تستسلم لكثيرٍ من النوازع والمشاعر الذاتية الملتهبة المثيرة، فتسقط في مواقع الانحراف... وليس معنى ذلك، أن هذا هو قضاء الأكثرية وقدرها الذي لا يمكن لها أن تتجاوزه، بل هو أمرٌ واقعٌ ناشئ من عوالم خارجيةٍ وظروفٍ طارئةٍ، من خلال عدم وجود خطة طويلة لاحتواء الساحة وتوجيهها، وتحريك العناصر الإيجابية الكامنة في داخلها، والاستفادة من بعض العوامل الملائمة لحركة الرسالة... وأخيراً، إن القرآن عندما يعالج مسألة الأكثرية من خلال النظرة السلبية، فإنه يريد تأكيد المسألة من الناحية الواقعية، على أساس أنها لا تمثل المقياس الصحيح للحقيقة، كما يراه الناس في هذه الأيام، بل ربما كانت تلتقي على العكس من ذلك بنظرة الباطل، ولكن لا مانع من أن تلتقي بالحق إذا أحسن القائمون على حركة الرسالة السير معها بصدقٍ وعزمٍ وتركيز...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

«صرَّفنا» مِن «تصريف» بمعنى التغيير أو التبديل. أمّا «كفوراً» فتعني إِنكار الحق... حقّاً إِنَّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب، خاصّة وأنّه صدر مِن شخص لا يعرف القراءة والكتابة، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصّة حول قضايا العقائد، وذكرت أيضاً الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة. وتعرَّض القرآن أيضاً إلى قضايا وأحداث تأريخية تُعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها، وخالية مِن الخرافات. وتعرض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثَّر في القلوب المستعدّة... لِنفترض أنَّ جميع العلماء والمتخصصين يجتمعون اليوم لتأليف دائرة معارف، ويُنظموها بأفضل ما لديهم مِن خبرات فنية ومعرفية، فإِنَّ النتيجة ستكون عملا يلقى صداه الحَسن في مجتمع اليوم، أمّا بعد خمسين عاماً فسيعتبر هذا العمل ناقصاً وقديماً. أمّا القرآن ففي أي عصر وزمان يُقرأ، وخاصّة في زماننا الحاضر، فإِنّه يبدو كأنَّهُ نزل ليومنا هذا...