ثم عقب - سبحانه - على أحوالهم هذه ، بالتعجيب من شأنهم ، وبالتقريع عليهم على جهلهم ، فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } .
أى : أجهل هؤلاء الناس الذين لم يخالط الإِيمان قلوبهم ، ولم يشاهوا بأعينهم أن الله - تعالى - بمقتضى حكمته ، يسوع الرزق لمن يشاء من عباده . ويضيقه على من يشاء مهم ، لاراد لقضائه ، ولا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل .
إن واقع الناس يشهد ويعلن : أن الله - تعالى - يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، فما لهؤلاء القوم ينكرون هذا الواقع بأفعالهم القبيحة ، حيث إنهم يبطرون عند السراء ، ويقنطون عند الضراء ؟ فالمقصود بالآية الكريمة توبيخهم على عدم فهمهم لسنن الله فى خلقه .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أى : إن فى ذلك الذى ذكرناه لكم من أحوال الناس ، ومن قدرتنا على كل شئ { لآيَاتٍ } واضحات ، وعبر بينات ، لقوم يؤمنون بما أرشدناهم إليه ، ويعلمون بما يقتضيه إيمانهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أَوَ لم ير هؤلاء الذين يفرحون عند الرخاء يصيبهم والخصب، وييأسون من الفرج عند شدّة تنالهم، بعيون قلوبهم، فيعلموا أن الشدّة والرخاء بيد الله، وأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده فيوسعه عليه، ويقدر على من أراد فيضيقه عليه.
"إنّ فِي ذلكَ لآيات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ" يقول: إن في بسطه ذلك على من بسطه عليه، وقدره على من قدره عليه، ومخالفته بين من خالف بينه من عباده في الغنى والفقر، لدلالة واضحة لمن صدّق حجج الله وأقرّ بها إذا عاينها ورآها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وجه الآيات لهم على كفار مكة من وجوه: في إثبات الرسالة، وفي البعث، وفي إظهار سفههم في عبادة الأصنام وإشراكهم إياها في عبادة الله لأن أهل مكة كانوا ينكرون الرسالة والبعث، ويرون عبادة غير الله فالاحتجاج عليهم بهذه الآية على الوجوه التي ذكرنا.
فأما الاحتجاج في إثبات الرسالة فهو من وجوه ثلاثة:
أحدها: أنهم كانوا ينكرون الرسالة لأنهم بشر، ولا يرون للبشر بعضهم على بعض فضلا كقوله: {ما هذا إلا بشر مثلكم} [المؤمنون: 24 و33] فيريهم الفضل لبعضهم على بعض في الرزق موسعا على بعض مضيقا مقترا على بعض. فإن ثبت عندهم، وظهر الفضل لبعض على بعض في ما ذكرنا فيجوز الفضل على بعض في الرسالة.
والثاني: ذكره مقابلا لقولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31] يخبر أن الأمر ليس إليهم إنما ذلك [إلى الله] يختار من يشاء لما يشاء من الرسالة والنبوة وغيرهما كما يختار التوسيع على من يشاء والتضييق والتقتير على من يشاء، وإن كانوا جميعا يتمنون السعة، ويحبونها، ويرهبون من الضيق والتقتير. ولكن الأمر في ذلك إلى الله كله.
والثالث: وسع على بعض، وضيق على بعض؛ فالجهة التي وسع على بعض غير الجهة التي ضيق على بعض، فلا بد من رسول يخبر عن ذلك، ويعلم ما على هذا وما على هذا، وما جهة التفريق بينهم والتفضيل في الرزق.
وأما الاحتجاج عليهم في البعث بها فمن وجوه أيضا:
أحدها: أنه جمع في هذه الدنيا بين العدو والولي، وسع بينهما في التوسيع والتضييق؛ إذ وسع على العدو والولي جميعا، وضيق على الولي، ووسع على العدو. وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما في هذه الدنيا لا الجمع والتسوية، وقد سوى بينهما في هذه الدنيا وجمع. فلا بد من دار أخرى، فيها يفرق بينهما، فيلزمهم البعث.
والثاني: أنه وسع الرزق على من هو في تقديرهم وعقولهم أنه لا يجب التوسيع عليه؛ وهو السفيه الجاهل الذي في تقدير كل ذي عقل ولب أن يكون محروما مضيقا، وضيق على من هو في تقدير كل أحد وعقله أن يكون موسعا عليه مرزوقا، وهو العاقل العارف بجميع أسباب السعة والغنى، وفي التقدير على خلاف هذا، فلا بد من مكان فيه يظهر التفضيل للعقول والمعارف والرغبة فيها والرغبة عن أضدادها ومن هو أهل التوسيع ومن هو أهل الحرمان إذ قد اشتركوا في هذه.
والثالث: أن يعتبروا، وينظروا، بأن من قدر على توسيع الرزق وبسطه وتضيق الرزق وحرمانه بالأسباب الخارجة عن تقديرهم وتدبيرهم وبغير أسباب قادر على إحياء الأشياء الخارجة عن قدرتهم وتدبيرهم.
وأما وجه الاحتجاج عليهم بعبادتهم غير الله ففي ذلك تناقض، وذلك بأنهم قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وكانت لا تشفع في الدنيا، ولا تقربهم الزلفى فيها في التوسيع والبسط ودفع الضيق، وفي الآخرة لا يحتمل [ذلك] لأنهم كانوا لا يؤمنون. فهو تناقض وسفه وسرف في القول.
{إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} يحتمل وجهين:... الثاني: لقوم ينتفعون بإيمانهم، والمنتفعون هم المنتفعون بها. فأما من كفر فلا ينتفع.
وجائز أن يكون في ذلك العبرة من وجه آخر {لقوم يؤمنون} وهو ألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي يكتسبون بها، ولكن يرون الرزق من الله؛ أنه يرزق بأسباب وبغير أسباب، أو يذكر هذا لهم على أن من رفع الحاجة إلى آخر، فلم يقضها، فهو يرى حرمانها من الله لا من ذلك الرجل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم أنكر عليهم بأنهم قد علموا أنه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته، وما لهم لا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتى يعيد إليهم رحمته.
أو لم يعلموا أن الكل من الله، فالمحقق ينبغي أن لا يكون نظره على ما يوجد بل إلى من يوجد وهو الله، فلا يكون له تبدل حال، وإنما يكون عنده الفرح الدائم، ولكن ذلك مرتبة المؤمن الموحد المحقق، ولذلك قال: {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولذلك أنكر عليهم عدم الرؤية دالاً بواو العطف أن التقدير: ألم يروا في أنفسهم تبدل الأحوال، قائلاً: {أولم يروا} أي بالمشاهدة والإخبار رؤية متكررة، فيعلموا علماً هو في ثباته كالمشاهد المحسوس، وعبر بالرؤية الصالحة للبصر والبصيرة لأن مقصود السورة إثبات الأمر كله لله، ولا يكفي فيه إلا بذل الجهد وإمعان النظر.
ولما كان في البسط والقبض جمع بين جلال وجمال، لفت الكلام بذكر الاسم الجامع فقال: {أن الله} بجلاله وعظمته.
{يبسط الرزق} أي يكثره {لمن يشاء} أي من عباده منهم ومن غيرهم {ويقدر} أي يضيق، وإن هذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة، ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد.
وقد أشار سبحانه إلى عظمته بقوله، مؤكداً لأن عملهم في شدة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل من يظن أن تحصيلها إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرر المشاهدة للزوال في النفس والغير، واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار الآية..
{لقوم} أي ذوي همم وكفاية للقيام بما يحق لهم أن يقوموا فيه.
{يؤمنون} أي يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة، بإدامة التأمل والإمعان في التفكر، والاعتماد في الرزق على من قال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} [القمر: 17] أي من طالب علم فيعان عليه فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق، لأن "أفضل العبادة انتظار الفرج "بل هم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها معرضون عما سوى ذلك، وقد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه، وهو القدير العليم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فجملة {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق...} عطف على جملة {وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها}
والاستفهام إنكاري في معنى النفي؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلاً لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها. فالتقدير: إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك. والرؤية بصرية.
وجملة {إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} تذييل، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة، ومُسبباتها كذلك، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها، كل على حسب استعداده.
وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة...
... إذن ينبغي أن تتحرى إلى الرزق أسبابه ولا تشغلن بعدها بالك بأمره، فقد تكفل به خالقك الذي استدعاك للوجود.
"لقوم يؤمنون" لأن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه في الإعطاء وفي المنع.
ونلحظ على أسلوب الآية تعالى في البسط: {لمن يشاء} وفي التضييق {ويقدر} ولم يقل لمن يشاء؛ لأن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه فقال {لمن يشاء} لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلاء الذين سيبسط لهم في الرزق، أما في التقتير فلم يقل (لمن) ليظل مبهما يستبعده كل منا عن نفسه.