القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِنّمَا يَسّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * فَارْتَقِبْ إِنّهُمْ مّرْتَقِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإنما سهّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك ، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه ، ويتّعظوا بعظاته ، ويتفكّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم ، فينيبوا إلى طاعة ربهم ، ويذعنوا للحقّ عند تَبَيُنهموه . كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإنّمَا يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ : أي هذا القرآن لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فإنّما يَسّرْناهُ بِلِسانِكَ قال : القرآن ، ويسّرناه : أطلق به لسانه .
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة ، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضاراً لتلك الأغراض وضبطاً لترتُّب علتها .
وضمير { يسرناه } عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله { والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ } [ الدخان : 2 ، 3 ] الخ ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة ، وقوله : { والكتاب المبين } ، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر . فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله : { فإنما يسرناه بلسانك } لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعاً على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ .
ويجوز أن يكون المفرع قوله : { لعلهم يتذكرون } . وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماماً بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذّكرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم .
والقصر المستفاد من ( إنما ) قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهَّل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله : { بل هم في شَكٍ يلعبون } [ الدخان : 9 ] أي إنا جعلنا فهمه يسيراً بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا . فمفعول { يسرناه } مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره : فهمه .
والباء في { بلسانك } للسببية ، أي بسبب لغتك ، أي العربية وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له ، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى : { وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] .
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى : { بلسانٍ عربيٍ مبينٍ } [ الشعراء : 195 ] .
وأفصح قوله { لعلهم يتذكرون } عن الأمر بالتذكير بالقرآن . والتقدير : فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر ، فالتيسير هنا تسهيل الفهم ، وتقدم عند قوله تعالى : { فإنما يسرّناه بلسانك لتبشر به المتقين } الخ في سورة مريم ( 97 ) .
و ( لعلّ ) مستعملة في التعليل ، أي لأجل أن يتذكّروا به ، وَهَذَا كقوله : { وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين } [ الأحقاف : 12 ] .
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم لأن الغرض منه التذكر ، قال تعالى : { ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر } [ القمر : 17 ] ، وبأن سبب ذلك التيسير كونُه بأفصح اللغات وكونُه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسبباً قريباً لو لم يكونوا في شك يلعبون . وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله : { فارتقب إنهم مرتقبون } أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإنما يسرناه بلسانك} يعني القرآن: هوناه على لسانك.
{لعلهم}: لكي {يتذكرون} فيؤمنوا بالقرآن، فلم يؤمنوا به...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإنما سهّلنا قراءة هذا القرآن الذي أنزلناه إليك يا محمد بلسانك، ليتذكر هؤلاء المشركون الذين أرسلناك إليهم بعبره وحُججه، ويتّعظوا بعظاته، ويتفكّروا في آياته إذا أنت تتلوه عليهم، فينيبوا إلى طاعة ربهم، ويذعنوا للحقّ عند تَبَيُنهموه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فإنما يسّرناه بلسانك} هذا يُخرّج على وجهين:
أحدهما: كأنه يقول: فإنما أنزلنا القرآن بلسانك، ويسّرناه للذِّكر ليُلزمهم الشكر؛ لأنه أنزله بلسانه، ويسّره لقومه؛ لأنه لو كان مُنزلا بغير لسانه لم يكن مُيسّرا لهم للذّكر.
والثاني: {فإنما يسّرناه} على لسانك كي [تذكُره، وتحفظه] بلا كتابة ولا نظر في كتاب؛ لأنه ذُكر أنه كان عليه السلام يحفظ سورة طويلة إذا تلا عليه جبريل عليه السلام، وقد أمّنه الله سبحانه وتعالى من النسيان بقوله تعالى: {سنُقرئك فلا تنسى} الأعلى: 6].
{لعلّهم يتذكّرون} يُخرّج على وجهين: أحدهما: لكي يُلزمهم التذكّر.
وهذا يدل على أنه أراد من الكل الإيمان والمعرفة وأنه ما أراد من أحد الكفر، وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله {لعلهم يتذكرون} عائد إلى أقوام مخصوصين فنحن نحمل ذلك على المؤمنين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما قدم سبحانه في هذه السورة ما للقرآن من البركة بما اشتمل عليه من البشارة والنذارة والجمع والفرق، وذكرهم بما يقرون به من أنه مبدع هذا الكون مما يستلزم إقرارهم بتوحيده المستلزم؛ لأنه يفعل ما يشاء من إرسال وإنزال وتنبيه وبعث وغير ذلك، وهددهم بما لا يقدر عليه غيره من الدخان والبطشة، وفعل بعض ذلك، وذكرهم بما يعرفون من أخبار من مضى من قروم القرون وأنهم مع ذلك كله أنكروا البعث، ثم ذكر ما يقتضي التحذير والتبشير -كل ذلك في أساليب فاتت كل المدى، فأعجزت جميع القوى، مع ما لها من المعاني الباهرة، والبدائع الزاهرة القاهرة، سبب عن قوله فذلكة للسورة: {فإنما يسرناه} أي جعلنا له يسراً عظيماً وسهولة كبيرة.
ولما كان الإنسان كلما زادت فصاحته وعظمت بلاغته، كان كلامه أبين وقوله أعذب وأرصن وأرشق وأمتن، وكان صلى الله عليه وسلم أفصح الناس وأبعدهم لذلك من التكلف، أضافه إليه فقط فقال: {بلسانك} أي هذا العربي المبين وهم عرب تعجبهم الفصاحة.
{لعلهم يتذكرون} أي ليكونوا عند من يراهم وهو عارف بلسانهم ممن شأنه كشأنهم على رجاء من أن يتذكروا أن هذا القرآن شاهد بإعجازه بصحة ما فيه من التوحيد والرسالة وغيرهما مما سبق إليك وجلى عليك وإلا لقدروا هم- وهم أفصح الناس على معارضة شيء منه فيتذكروا ما غفلوا عنه من أنه عزيز بإهلاكه الجبابرة، وأنه حكيم بنصبه الآيات لأنبيائه وتأييدهم بالمعجزات، ومن أن الكبير منهم لا يرضى أن يطعن أحد في كبريائه ولا أن يترك من له عليه حكم وهو تحت قهره؛ أن يبغي بعضهم على بعض ثم لا ينصر المظلوم منهم على ظالمه ويأخذ بيده حتى لا يستوي المحسن بالمسيء، فإذا تذكروا ذلك مع ما يعرفون من قدرة الملك وكبريائه وحكمته علموا قطعاً أنه لا بد من البعث للتمييز بين أهل الصلاح والفساد، والفصل بين جميع العباد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هو ختام يلخص جو السورة وظلها. ويتناسق مع بدئها وخط سيرها. فقد بدأت بذكر الكتاب وتنزيله للإنذار والتذكير، وورد في سياقها ما ينتظر المكذبين. (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون).. فجاء هذا الختام يذكرهم بنعمة الله في تيسير هذا القرآن على لسان الرسول العربي الذي يفهمونه ويدركون معانيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء للتفريع إشارة إلى أن ما بعدها متفرّع عما قبلها حيث كان المذكور بعد الفاء فذلكة للسورة، أي إجمال لأغراضها بعد تفصيلها فيما مضى إحضاراً لتلك الأغراض وضبطاً لترتُّب علتها.
وضمير {يسرناه} عائد إلى الكتاب المفهوم من المقام والمذكور في قوله {والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركةٍ} [الدخان: 2، 3] الخ، والذي كان جلّ غرض السورة في إثبات إنزاله من الله كما أشار إليه افتتاحها بالحروف المقطعة، وقوله: {والكتاب المبين}، فهذا التفريع مرتبط بذلك الافتتاح وهو من ردّ العجز على الصدر. فهذا التفريع تفريع لمعنى الحصر الذي في قوله: {فإنما يسرناه بلسانك} لبيان الحكمة في إنزال القرآن باللسان العربي فيكون تفريعاً على ما تقدم في السورة وما تخلله وتبعه من المواعظ.
ويجوز أن يكون المفرع قوله: {لعلهم يتذكرون}. وقدم عليه ما هو توطئة له اهتماماً بالمقدم وتقدير النظم فلعلهم يتذّكرون بهذا لما يسّرناه لهم بلسانهم.
والقصر المستفاد من (إنما) قصر قلب وهو رد على المشركين إذ قد سهَّل لهم طريق فهمه بفصاحته وبلاغته فقابلوه بالشك والهزء كما قصه الله في أول السورة بقوله: {بل هم في شَكٍ يلعبون} [الدخان: 9] أي إنا جعلنا فهمه يسيراً بسبب اللغة العربية الفصحى وهي لغتهم إلا ليتذكروا فلم يتذكروا. فمفعول {يسرناه} مضاف مقدر دل عليه السياق تقديره: فهمه.
والباء في {بلسانك} للسببية، أي بسبب لغتك أي العربية، وفي إضافة اللسان إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم عناية بجانبه وتعظيم له، وإلا فاللسان لسان العرب كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4].
وإطلاق اللسان وهو اسم الجارحة المعروفة في الفم على اللّغة مجاز شائع لأن أهم ما يستعمل فيه اللسان الكلام قال تعالى: {بلسانٍ عربيٍ مبينٍ} [الشعراء: 195].
وأفصح قوله {لعلهم يتذكرون} عن الأمر بالتذكير بالقرآن. والتقدير: فذكّرهم به ولا تسأم لعنادهم فيه ودم على ذلك حتى يحصل التذكر، فالتيسير هنا تسهيل الفهم، وتقدم عند قوله تعالى: {فإنما يسرّناه بلسانك لتبشر به المتقين} الخ في سورة مريم (97).
و (لعلّ) مستعملة في التعليل؛ أي لأجل أن يتذكّروا به، وَهَذَا كقوله: {وهذا كتابٌ مصدقٌ لساناً عربياً لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} [الأحقاف: 12].
وفي هذا الكلام الموجز إخبار بتيسير القرآن للفهم؛ لأن الغرض منه التذكر، قال تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} [القمر: 17]، وبأن سبب ذلك التيسير كونُه بأفصح اللغات وكونُه على لسان أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم فلذلك كان تسببه في حصول تذكرهم تسبباً قريباً لو لم يكونوا في شك يلعبون. وباعتبار هذه المعاني المتوافرة حسن أن يفرع على هذه الجملة تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتهديد معانديه بقوله: {فارتقب إنهم مرتقبون} أي فارتقب النصر الذي سألته بأن تعان عليهم بسنين كسنين يوسف فإنهم مرتقبون ذلك وأشد منه وهو البطشة الكبرى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(فإنّما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكّرون) فمع أنّ محتواه عميق جداً، وأبعاده مترامية، لكنه بسيط واضح، يفهمه الجميع، وتقتبس من أنواره كلّ الطبقات، أمثاله جميلة رائعة، وتشبيهاته واقعية بليغة، وقصصه حقيقية تربوية، دلائله واضحة محكمة، وبيانه مع عمقه بسيط سهل، مختصر عميق المحتوى، وهو في الوقت نفسه ذو حلاوة وجاذبية، ينفذ إلى أعماق قلوب البشر، فينبه الغافلين، ويعلم الجاهلين، ويذكر من كان له قلب.
وقد ذكر بعض المفسّرين تفسيراً آخر لهذه الآية، يكون معنى الآية طبقاً له: إنّك وإن كنت أُميّاً لم تدرس وتتعلم، لكنك تستطيع أن تقرأ بكلّ يسر وسهولة هذه الآيات العميقة الغنية المحتوى، والتي تبين الوحي والإعجاز الإلهي. غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب. وهذه الآية في الواقع شبيهة بالآية التي تكررت عدّة مرات في سورة القمر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)؟!