ثم بين - سبحانه - أن الأرزاق جميعها بيده ، يوسعها لمن يشاء ويضييقها على من يشاء فقال : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ . . . } .
والضمير فى قوله : { لَهُ } يعود على { مِنْ } على حد قولك : عندى درهم ونصفه . أى : ونصف درهم آخر .
أى : الله - تعالى - وحده وهو الذى يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه عليه من عباده ، وهو وحده الذى يضيق الرزق على من يشاء أن يضيقه عليه من عباده . لأنه - سبحانه - لا يسأل عما يفعل ، وأفعاله كلها خاضعة لمشيئته وحكمته ، وكل شئ عنده بمقدار .
ويجوز أن يكون المعنى : الله - تعالى - وحده هو الذى بقدرته أن يوسع الرزق لمن يشاء من عباده تارة ، وأن يضيقه عليهم تارة أخرى .
فعلى المعنى الأول : يكون البسط فى الرزق لأشخاص ، والتضييق على آخرين ، وعلى المعنى الثانى يكون البسط والتضييق للأشخاص أنفسهم ولكن فى أوقات مختلفة .
والله - تعالى - قادر على كل هذه الأحوال ، لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ .
{ إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فيعلم ما فيه صلاح عباده وما فيه فسادهم ، ويعمل من يستحق أن يبسط له فى رزقه ، ومن يستحق التضييق على رزقه .
يقول تعالى مقررا{[22689]} أنه لا إله إلا هو ؛ لأن المشركين - الذين يعبدون معه غيره - معترفون أنه{[22690]} المستقل بخلق السموات والأرض والشمس والقمر ، وتسخير الليل والنهار ، وأنه الخالق الرازق لعباده ، ومقدر آجالهم ، واختلافها واختلاف أرزاقهم ففاوت بينهم ، فمنهم الغني والفقير ، وهو العليم بما يصلح كُلا منهم ، ومَنْ يستحق الغنى ممن يستحق الفقر ، فذكر أنه المستبدُّ بخلق الأشياء{[22691]} المتفرد بتدبيرها ، فإذا كان الأمر كذلك فلم يُعبد غيره ؟ ولم يتوكل على غيره ؟ فكما أنه الواحد في ملكه فليكن الواحد في عبادته ، وكثيرًا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية . وقد كان المشركون يعترفون بذلك ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : " لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك " .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه ، ويضيق فيُقتّر لمن يشاء منهم . يقول : فأرزاقكم وقسمتها بينكم أيها الناس بيدي دون كل أحد سواي أبسط لمن شئت منها ، وأقتر على من شئت ، فلا يخلفنكم عن الهجرة وجهاد عدوّكم خوف العيلة إنّ اللّهَ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : إن الله عليم بمصالحكم ، ومن لا يصلُح له إلاّ البسط في الرزق ، ومن لا يصلح له إلاّ التقتير عليه ، وهو عالم بذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم رجع إلى الذين رغبهم في الهجرة، والذين قالوا: لا نجد ما ننفق، فقال عز وجل: {الله يبسط} يعني: يوسع {الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له} يعني: ويقتر على من يشاء {إن الله بكل شيء عليم} من البسط على من يشاء والتقتير عليه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: الله يوسع من رزقه لمن يشاء من خلقه، ويضيق فيُقتّر لمن يشاء منهم. يقول: فأرزاقكم وقسمتها بينكم أيها الناس بيدي دون كل أحد سواي أبسط لمن شئت منها، وأقتر على من شئت، فلا يخلفنكم عن الهجرة وجهاد عدوّكم خوف العيلة.
"إنّ اللّهَ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" يقول: إن الله عليم بمصالحكم، ومن لا يصلُح له إلاّ البسط في الرزق، ومن لا يصلح له إلاّ التقتير عليه، وهو عالم بذلك.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: الذي رجع إليه الضمير في قوله: {وَيَقْدِرُ لَهُ} هو من يشاء، فكأن بسط الرزق وقدره جعلا لواحد. قلت: يحتمل الوجهين جميعاً: أن يريد ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع من يشاء، لأن {مَن يَشَآءُ} مبهم غير معين، فكان الضمير مبهماً مثله، وأن يريد تعاقب الأمرين على واحد على حسب المصلحة.
لما بين الخلق، ذكر الرزق لأن كمال الخلق ببقائه، وبقاء الإنسان بالرزق، فقال المعبود إما أن يعبد لاستحقاقه العبادة، وهذه الأصنام ليست كذلك والله مستحقها، وإما لكونه على الشأن، والله الذي خلق السماوات على الشأن جلي البرهان فله العبادة، وإما لكونه ولي الإحسان والله يرزق الخلق فله الطول والإحسان والفضل والامتنان فله العبادة من هذا الوجه أيضا.
{لمن يشاء} إشارة إلى كمال الإحسان، وذلك لأن الملك إذا أمر الخازن بإعطاء شخص شيئا، فإذا أعطاه يكون له منة ما يسيرة حقيرة، لأن الآخذ يقول هذا ليس بإرادته وإنما هو بأمر الملك، وأما إن كان مختارا بأن قال له الملك إن شئت فأعطه وإن شئت فلا تعطه، فإن أعطاه يكون له منة جليلة لا قليلة، فقال الله تعالى الرزق منه وبمشيئته فهو إحسان تام يستوجب شكرا تاما.
{إن الله بكل شيء عليم} أي يعلم مقادير الحاجات ومقادير الأرزاق.
وفي إثبات العلم ههنا لطائف إحداها: أن الرازق الذي هو كامل المشيئة إذا رأى عبده محتاجا وعلم جوعه لا يؤخر عنه الرزق، ولا يؤخر الرازق الرزق إلا لنقصان في نفوذ مشيئته كالملك إذا أراد الإطعام والطعام لا يكون بعد قد استوى، أو لعدم علمه بجوع العبيد.
الثانية: وهي أن الله بإثبات العلم استوعب ذكر الصفات التي هي صفات الإله ومن أنكرها كفر وهي أربعة الحياة والقدرة والإرادة والعلم وأما السمع والبصر والكلام القائم به من ينكرها يكون مبتدعا لا كافرا، وقد استوفى الأربع، لأن قوله: {خلق السماوات والأرض} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {يبسط الرزق لمن يشاء} إشارة إلى نفوذ مشيئته وإرادته، وقوله: {إن الله بكل شيء عليم} إشارة إلى شمول علمه، والقادر المريد العالم لا يتصور إلا حيا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا إلزام آخر لهم بإبطال شركهم وافتضاح تناقضهم فإنهم كانوا معترفين بأن الرازق هو الله تعالى {قل مَن يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار} إلى قوله {فسيقولون الله فقل أفلا تتقون} في سورة يونس [31]. وإنما جاء أسلوب هذا الاستدلال مخالفاً لأسلوب الذي قبله والذي بعده فعدل عن تركيب {ولئن سألتهم} [العنكبوت: 61] تفنناً في الأساليب لتجديد نشاط السامع. وأدمج في الاستدلال على انفراده تعالى بالرزق التذكير بأنه تعالى يرزق عباده على حسب مشيئته دليلاً على أنه المختار في تصرفه وليس ذلك على مقادير حاجاتهم ولا على ما يبدو من الانتفاع بما يُرزقونه.
وبسط الرزق: إكثاره، وقَدْره: تقليله وتقتيره. والمقصود: أنه الرازق لأحوال الرزق، وقد تقدم في قوله تعالى {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} في سورة [الرعد: 26]. فجاءت هذه الآية على وزان قوله في سورة {أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون} [الروم: 27] فجمع بين ضمير المشركين في أولها وبين كون الآيات للمؤمنين في آخرها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله {الله يبسط الرزق} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يبسط الرزق ويقدر.
والتعبير بالمضارع لإفادة تجدد البسط والقدر. وزيادة {له} بعد {ويقدر} في هذه الآية دون آية سورة الرعد وآية القصص للتعريض بتبصير المؤمنين الذين ابتلوا في أموالهم من اعتداء المشركين عليها كما أشار إليه قوله آنفاً: {وكأين من دابة لا تحمل رزقها} [العنكبوت: 60] بأن ذلك القَدْر في الرزق هو لهم لا عليهم لما ينجر لهم منه من الثواب ورفع الدرجات، فغُلّب في هذا الغرض جانب المؤمنين ولهذا لم يُعدّ {يقدر} بحرف (على) كما مقتضى معنى القدر كما في قوله تعالى: {ومن قُدِر عليه رزقُه فلينفقْ مما ءاتاه الله} [الطلاق: 7]. وقال بعض المفسرين: إن المشركين عيروا المسلمين بالفقر، وقيل: إن بعض المسلمين قالوا: إن هاجرنا لم نجد ما ننفق. والضمير المجرور باللام عائد إلى (من يشاء من عباده) باعتبار أن (من يشاء) عام ليس بشخص معين لا سيما وقد بيّن عمومه بقوله {من عباده}. والمعنى: أنه يبسط الرزق لفريق ويقدر لفريق.
والتذييل بقوله {إن الله بكل شيء عليم} لإفادة أن ذلك كله جار على حكمة لا يطلع عليها الناس، وأن الله يعلم صبر الصابرين وجزع الجازعين كما تقدم في قوله في أول السورة: {فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت: 3]، قال تعالى: {لَتُبلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذىً كثيراً وإن تَصْبِروا وتتقوا فإِنَّ ذلك من عزم الأمور} [آل عمران: 186]...