ومع عجز المشركين عن الإِتيان بسورة من مثل القرآن الكريم إلا أنهم استمروا فى طغيانهم يعمهون ، وأبوا التذكر والتدبر ، ولقد صور - سبحانه - أحوالهم أكمل تصوير فقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } .
أى : ولقد صرفنا وكررنا ونوعنا للناس فى هذا القرآن من كل مثل ، أى : من كل معنى بديع ، هو كالمثل فى بلاغته ، وإقناعه للنفوس ، وشرحه للصدور ، واشتماله على الفوائد الجمة . . .
ومفعول : { صرفنا } محذوف ، والتقدير : ولقد صرفنا الهدايات والعبر بوجوه متعددة . .
وقوله - سبحانه - : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } بيان لموقف الفاسقين عن أمر ربهم من هدايات القرآن الكريم وتوجيهاته ، وأوامره ونواهيه .
أى : فأبى أكثر الناس الاستجابة لهديه ، وامتنعوا عن الإِيمان بأنه من عند الله - تعالى - وجحدوا آياته وإرشاداته ، وعموا وصموا عن الحق الذى جاءهم به من نُزِّل عليه القرآن ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال - سبحانه - : { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ } بالإِظهار فى مقام الإِضمار ، للتأكيد والتوضيح .
والمراد بأكثر الناس : أولئك الذين بلغهم القرآن الكريم ، واستمعوا إلى آياته وتوجيهاته وتشريعاته وآدابه ، ولكنهم استحبوا الكفر على الإِيمان ، وآثروا الضلالة على الهداية .
وعبر - سبحانه - بالأكثر ، إنصافاً للقلة المؤمنة التى فتحت صدورها للقرآن ، فآمنت به ، وعملت بما فيه من أوامر ونواه . .
قال الجمل : فإن قيل : كيف جاز قوله { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } حيث وقع الاستثناء المفرغ فى الإِثبات . مع أنه لا يصح ، إذ لا يصح أن تقول : ضربت إلا زبدا .
فالجواب : أن لفظة { أبى } تفيد النفى ، فكأنه قيل : فلم يرضوا إلا كفورا .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت ما يدل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعلمه ، وفضله على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى الناس ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً .
ثم حكى - سبحانه - بعض المطالب المتعنتة التى طلبها المشركون من النبى صلى الله عليه وسلم فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً . . . } .
( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا . وقالوا : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ؛ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ؛ أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا ؛ أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ؛ أو يكون لك بيت من زخرف ؛ أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ) .
وهكذا قصر إدراكهم عن التطلع إلى آفاق الإعجاز القرآنية ، فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية ، ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية ، أو يتبجحون في حق الذات الإلهية بلا أدب ولا تحرج . . لم ينفعهم تصريف القرآن للأمثال والتنويع فيها لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر ، وشتى الأجيال والأطوار . ( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) .
لما تحدى الله بلغاء المشركين بالإعجاز تطاول عليهم بذكر فضائل القرآن على ما سواه من الكلام ، مدمجاً في ذلك النعي عليهم إذ حرموا أنفسهم الانتفاع بما في القرآن من كل مثَل . وذكرت هنا ناحية من نواحي إعجازه ، وهي ما اشتمل عليه من أنواع الأمثال . وتقدم ذكر المثل عند قوله تعالى : { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما } في سورة [ البقرة : 26 ] . ويجوز أن يراد بالمثل الحال أي من كل حال حسن من المعاني يجدر أن يمثل به ويشبه ما يزاد بيانه في نوعه .
فجملة { ولقد صرفنا } معطوفة على جملة { قل لئن اجتمعت الإنس والجن } مشاركة لها في حكمها المتقدم بيانه زيادة في الامتنان والتعجيز .
وتأكيدها بلام القسم وحرف التحقيق لرد أفكار المشركين أنه من عند الله ، فمورد التأكيد هو فعل { صرفنا } الدال على أنه من عند الله .
والتصريف تقدم آنفاً عند قوله تعالى : { ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا } [ الإسراء : 41 ] .
وزيد في هذه الآية قيد { للناس } دون الآية السابقة لأن هذه الآية واردة في مقام التحدي والإعجاز ، فكان الناس مقصودين به قصداً أصلياً مؤمنهم وكافرهم بخلاف الآية المتقدمة فإنها في مقام توبيخ المشركين خاصة فكانوا معلومين كما تقدم .
ووجه تقديم أحد المتعلقين بفعل { صرفنا } على الآخر : أن ذكر الناس أهم في هذا المقام لأجل كون الكلام مسوقاً لتحديهم والحجة عليهم ، وإن كان ذكر القرآن أهم بالأصالة إلا أن الاعتبارات الطارئة تُقدّم في الكلام البليغ على الاعتبارات الأصلية ، أن الاعتبارات الأصلية لتقررها في النفوس تصير متعارَفة فتكون الاعتبارات الطارئة أعز منالاً . ومن هذا باب تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر . والأظهر كون التعريف في { الناس } للعموم كما يقتضيه قوله : { فأبى أكثر الناس إلا كفوراً } .
وذكر في هذه الآية متعلق التصريف بقوله : { من كل مثل } بخلاف الآية السابقة ، لأن ذكر ذلك أدخل في الإعجاز ، فإن كثرة أغراض الكلام أشد تعجيزاً لمن يروم معارضته عن أن يأتي بمثله ، إذ قد يقدر بليغ من البلغاء على غرض من الأغراض ولا يقدر على غرض آخر ، فعجزهم عن معارضة سورة من القرآن مع كثرة أغراضه عجز بيِّن من جهتين ، لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله ولو في بعض الأغراض ، كما أشار إليه قوله تعالى في سورة [ البقرة : 23 ] { فأتوا بسورة من مثله } فإن ( من ) للتبعيض وتنوين ( مثل ) للتعظيم والتشريف ، أي من كل مثل شريف . والمراد : شرفه في المقصود من التمثيل .
و ( من ) في قوله : { من كل مثل } . للتبعيض ، و ( كل ) تفيد العموم ، فالقرآن مشتمل على أبعاض من جميع أنواع المثل .
وحذف مفعول { أبى } للقرينة ، أي أبى العمل به .
وفي قوله : { إلا كفوراً } تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي تأكيد في صورة النقص ، لما فيه من الإطماع بأن إبايتهم غير مطردة ، ثم يأتي المستثنى مؤكداً لمعنى المستثنى منه ، إذ الكفور أخص من المفعول الذي حذف للقرينة . وهو استثناء مُفرغ لما في فعل { أبى من معنى النفي الذي هو شرط الاستثناء المفرغ لأن المدار على معنى النفي ، مثل الاستثناء من الاستفهام المستعمل في النفي كقوله : { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] .
والكُفور بضم الكاف المجحود ، أي جحدوا بما في القرآن من هدى وعاندوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.