{ يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } .
والمراد بالبرهان هنا الدلائل والمعجزات الدالة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه . ويصح أن يكون المراد به النبى صلى الله عليه وسلم وسماه - سبحانه - بذلك بسبب ما أعطاه من البراهين القاطعة التى شهدت بصدقه صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالنور المبين : القرآن الكريم .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى ، وأجاب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب . ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقال : { يَا أَيُّهَا الناس قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ } .
والبرهان : هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما سماه برهانا ، لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل . والنور المبين هو القرآن الكريم . وسماه نورا ، لأنه سبب لوقوع نور الإِيمان فى القلب . .
و { مِّن } فى قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } لابتداء الغاية مجازا ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لبرهان . أى : قد جاءكم برهان كائن من ربكم .
وفى وصف البرهان بأنه من الله - تعالى - تقوية وتشريف لمعنى البرهان ، لأنه ما دام قد جاء من عند من له الخلق والأمر - سبحانه - فلا بد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لمن يريد أن تبع الحق .
وقال - سبحانه - { وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ } بإسناد الإِنزال إلى ذاته - تعالى - ، للإِشارة إلى أنه هو مصدر الإِنزال .
وقال { إِلَيْكُمْ } مع أن المنزل عليه هو النبى صلى الله عليه وسلم للإِشعار بكمال اللفط بهم ، وللمبالغة فى إزالة أعذارهم .
ووصف الشرائع والمواعظ والآداب ولاكم التى اشتمل عليها القرآن الكريم بالنور المبين أى الواضح الظاهر ، لأن هذه الشرائع والآداب . لا يخفى صدقها واشتمالها على الحق إلا على من انطمست بصيرته ، وفسدت مداركه .
ومن ثم دعوة إلى الناس كافة - كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي - أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله . وهي نور كاشف للظلمات والشبهات . فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه ؛ وسيجد فضل الله يشمله ؛ وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم :
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ؛ وأنزلنا إليكم نورا مبينا . فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا ) . .
وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس .
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم ) .
إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه ؛ يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر . . في مبناه وفي فحواه سواء . وهي قضية واضحة يدركها أحيانا من لا يفهمون من العربية حرفا واحدا ، بصورة تدعو إلى العجب .
كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى نيويورك ، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب . . ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة . وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها . وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون !
وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا - من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية - سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة ! جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة . وقالت لنا في انجليزية ضعيفة : أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم . . ولكن ليس هذا ما جئت من أجله . . إنني لا أفهم من لغتكم حرفا واحدا . غير أنني أحس أن فيها إيقاعا موسيقيا لم أعهدة في أية لغة . . ثم . . إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب . هي أشد إيقاعا . ولها سلطان خاص على نفسي ! ! !
وعرفت طبعا أنها الآيات القرآنية ، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص !
لا أقول : إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية . . ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة !
فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة ، وحس خاص بأساليبها ، فقد كان من أمرهم ما كان ؛ يوم واجههم محمد [ ص ] بهذا القرآن . . وقصة الأخنس بن شريق ، وأبى سفيان بن حرب ، وأبى جهل وعمرو بن هشام ، في الاستماع سرا للقرآن ، وهم به مأخوذون ، قصة مشهورة . وهي إحدى القصص الكثيرة . . والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب . .
فأما فحوى القرآن . . التصور الذي يحمله . والمنهج الذي يقرره . والنظام الذي يرسمه . و " التصميم " الذي يضعه للحياة . . فلا نملك هنا أن نفصله . . ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه ؛ وعلى أنه ليس من صنع الإنسان ، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان .
( وأنزلنا إليكم نورا مبينًا ) . .
نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة ؛ ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محددا مرسوما . . في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء . . حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولا ؛ فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحا . . حيث يتلاشى الغبش وينكشف ؛ وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية ، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة ؟ !
وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة ؛ ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه ، يحس يسرا وبساطة ووضوحا في رؤية الأمور . ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء ؛ وتلتزم حقائقها في يسر ؛ وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية ، ونصاعتها كما خرجت من يد الله . .
ومهما قلت في هذا التعبير : " وأنزلنا إليكم نورا مبينًا . . فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته ، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه ! ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني ! ولا بد من التذوق الذاتي ! ولا بد من التجربة المباشرة !
وقوله تعالى : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } الآية إشارة إلى محمد رسول الله ، و «البرهان » : الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام ، والمعنى : قد جاءكم مقترناً بمحمد برهان من الله تعالى على صحة ما يدعوكم إليه وفساد ما أنتم عليه من النحل ، وقوله تعالى : { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } يعني القرآن فيه بيان لكل شيء ، وهو الواعظ الزاجر ، الناهي الآمر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.