وبعد هذا البيان الماحق لشبهات المشركين ولأقوالهم الباطلة . . أتبع - سبحانه - ذلك بذكر جانب من قصة إبراهيم - عليه السلام - مع قومه ، وبذكر جانب من اعتراضاتهم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى دعوته ، ورد عليها بما يخرس ألسنتهم فقال - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ . . . والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } .
أى : واذكر - أيها الرسول الكريم - لقومك حال جدك إبراهيم - عليه السلام - وقت أن قال لأبيه آزر ولقومه الذين كانوا عاكفين على عبادة الأصنام ، مقلدين فى ذلك آباءهم . . .
قال لهم : إننى برئ ما تعبدونه من هذه الأوثان .
وذكرهم - سبحانه - هنا بحال إبراهيم ، لأنه كان أعظم آبائهم ، ومحط فخرهم ، والمجمع على محبته منهم .
فكأنه - تعالى - يقول لهم : هذا هو حال جدكم إبراهيم الذى تعتزون به فلماذا لم تقلدوه فى إنكاره لعبادة الأصنام ، وفى هجره لما كان عليه أبوه وقومه ، وإخلاصه العبادة لله - تعالى - وحده .
وقوله : { بَرَآءٌ } مصدر وقع موقع الصفة وهى برئ ، على سبيل المبالغة فى التبرى من عبادتهم لغير الله - تعالى - يقال : تبرات من فلان ، فأنا منه براء .
( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين . وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) . .
إن دعوة التوحيد التي يتنكرون لها هي دعوة أبيهم إبراهيم . الدعوة التي واجه بها أباه وقومه مخالفاً بها عقيدتهم الباطلة ، غير منساق وراء عبادتهم الموروثة ، ولا مستمسك بها لمجرد أنه وجد أباه وقومه عليها ؛ بل لم يجاملهم في إعلان تبرئه المطلق منها في لفظ واضح صريح ، يحكيه القرآن الكريم بقوله :
( إنني براء مما تعبدون ، إلا الذي فطرني فإنه سيهدين ) . .
ويبدو من حديث إبراهيم - عليه السلام - وتبرئه مما يعبدون إلا الذي فطره أنهم لم يكونوا يكفرون ويجحدون وجود الله أصلاً ؛ إنما كانوا يشركون به ويعبدون معه سواه ، فتبرأ من كل ما يعبدون ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنّنِي بَرَآءٌ مّمّا تَعْبُدُونَ * إِلاّ الّذِي فَطَرَنِي فَإِنّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وَإذْ قالَ إبْراهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ الذين كانوا يعبدون ما يعبده مشركو قومك يا محمد إنّنِي بَرَاءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ من دون الله ، فكذّبوه ، فانتقمنا منهم كما انتقمنا ممن قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها . وقيل : إنّنِي بَرَاءٌ مِمّا تَعْبُدُونَ فوضع البراء وهو مصدر موضع النعت ، والعرب لا تثني البراء ولا تجمع ولا تؤنث ، فتقول : نحن البَرَاء والخلاء : لِما ذكرت أنه مصدر ، وإذا قالوا : هو برىء منك ثنوا وجمعوا وأنّثوا ، فقالوا : هما بريئان منك ، وهم بريئون منك . وذُكر أنها في قراءة عبد الله : «إنّنِي بَرِىءٌ » بالياء ، وقد يجمع برىء : بَرَاء وأبْراء إلاّ الّذِي فَطَرَنِي يقول : إني برىء مما تعبدون من شيء إلاّ من الذي فطرني ، يعني الذي خلقني فإنّهُ سَيَهْدِينِ يقول : فإنه سيقوّمني للدين الحقّ ، ويوفقني لاتباع سبيل الرشد . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ قالَ إبْرَاهِيمُ لأبيه وقومِهِ . . . الاَية ، قال : كايدهم ، كانوا يقولون : إن الله ربّنا وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ ، وَالأرْضَ لَيقُولُنّ اللّهُ ، فلم يبرأ من ربه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : إنّنِي بَرَاءٌ مِمّا تَعْبُدونَ يقول : إنني برىء مما تعبدون «إلاّ الّذِي خَلَقنِي » .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ إلاّ الّذِي فَطَرَنِي قال : خلقني .
{ وإذ قال إبراهيم } واذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرأ عن التقليد وتمسك بالدليل ، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم . { لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } برئ من عبادتكم أو معبودكم ، مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث ، وقرئ " برئ " و " براء " ككريم وكرام .
المعنى : واذكر إذا قال إبراهيم ، ولما ضرب تعالى المثل لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنذر وجعلهم أسوة له ، خص إبراهيم بالذكر لعظم منزلته ، وذكر محمداً صلى الله عليه وسلم بمنابذة إبراهيم عليه السلام لقومه ، أي فافعل أنت فعله وتجلد جلده . و : { براء } صفة تجري على الواحد والاثنين والجميع كعدل وزور .
وقرأ جمهور الناس : «بَرَاء » بفتح الباء . وقرأت فرقة : «بُراء » بضم الباء . وفي مصحف عبد الله وقراءة الأعمش : «إني » بنون واحدة «برئ » قال الفراء : ومن الناس من يكتب شكل الهمزة المخففة ألفاً في كل موضع ، ولا يراعي حركة ما قبلها ، قال : فربما كان خط مصحف عبد الله بألف كما في مصحف الجماعة ، لكن كان يلفظ بها : «برئ » بكسر الراء .
لما ذكَّرهم الله بالأمم الماضية وشبه حالهم بحالهم ساق لهم أمثالاً في ذلك من مواقف الرسل مع أممهم منها قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه . وابتدأ بذكر إبراهيم وقومه إبطالاً لقول المشركين : { إنا وجدْنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] ، بأن أوْلى آبائهم بأن يقتدوا به هو أبوهم الذي يفتخرون بنسبته إبراهيم .
وجملة { وإذ قال إبراهيم } عطف على عموم الكلام السابق من قوله : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قريةٍ من نذيرٍ } [ الزخرف : 23 ] إلى قوله : { وإذ قال إبراهيم } ، وهو عطف الغرض على الغرض .
و { إذْ } ظرف متعلق بمحذوف ، تقديره : واذْكُر إذ قال إبراهيم ، ونظائر هذا كثيرة في القرآن كما تقدم في قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } في سورة البقرة ( 30 ) .
والمعنى : واذكر زمان قول إبراهيم لأبيه وقومه قولاً صريحاً في التبرّؤ من عبادة الأصنام . وخُصَّ أبو إبراهيم بالذكر قبلَ ذكر قومه وما هو إلا واحد منهم اهتماماً بذكره لأن براءة إبراهيم مما يَعبُد أبُوه أدَلُّ على تجنب عبادة الأصنام بحيث لا يتسامح فيها ولو كان الذي يعبدها أقربَ النّاس إلى موحّد الله بالعبادة مثل الأببِ ، ولتكون حكاية كلام إبراهيم قدوة لإبطال قول المشركين { وإنّا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] قال تعالى : { قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برءؤا منكم ومما تعبدون من دون الله } [ الممتحنة : 4 ] أي فما كان لكم أن تقتدوا بآبائكم المشركين وهلا اقتديتم بأفضل آبائكم وهو إبراهيم .
والبَرَاء بفتح الباء مصدر بوزن الفَعال مثل الظَّماء والسّماع يخبر به ويوصف به في لغة أهل العالية وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة مما وراء مكّة وأما أهل نجد فيقولون بَريء .