نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ} (26)

ولما ذكر لهم الأدلة وحذرهم بالأخذ وتحرر أنهم مع التقليد لا ينفكون عنه ، ذكرهم بأعظهم آبائهم ومحط فخرهم وأحقهم بالاتباع للفوز بأتباع الأب في ترك التقليد أو في تقليده إن كان لا بد لهم من التقليد لكونه أعظم الآباء ولكونه مع الدليل ، فقال عاطفاً على ما تقديره للإرشارة إلى تأمله وإمعان النظر فيه : اذكر لهم ذلك : { وإذ } أي واذكر لهم حين { قال } أعظم آبائهم ومحط فخرهم والمجمع على محبته وحقية دينه منهم ومن أهل الكتاب وغيرهم { إبراهيم لأبيه } من غير أن يقلده كما أنتم قلدتم آبائكم ، ولما كانت مخالفة الواحد للجمع شديدة ، ذكر لهم حاله فيها بياناً لأنهم أحق منهم بالانفكاك عن التقليد { وقومه } الذين كانوا هم القوم في الحقيقة لاحتوائهم على ملك جميع الأرض كما قلت : إنا لكم سواء ولما كانوا لا يتخيلون أصلاً أن أحداً يكون مخالفاً لهم ، أكد بالحرف وإظهار نون الوقاية فقال : { إنني } وزاد بالنعت بالمصدر الذي يستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره لكونه مصدراً وإن وقع موقع الصفة باللفظ الدال على أنه مجسد من البراءة جعله على صورة المزيد لزيادة التأكيد فقال : { براء } ومن ضمه جعله وصفاً محضاً مثل طوال في طويل { مما تعبدون } في الحال والاستقبال مهما كان غير من اشتبه ، فإنهم كانوا مشركين فلا بد من الاستثناء ومن كونه متصلاً ، قال الإمام أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني في كتاب بيان نظم القرآن ما حاصله : سر قول السلف أن الكلمة هنا أي الآية في قوله كلمة باقية { لا إله إلا الله } أن النفي والتبرئة واحد فإنني براء بمنزلة لا ، وقوله { مما تعبدون } بمنزلة إله إذ كل معبود يسمى إلهاً فآل ذلك إلى : لا إله { إلا الذي فطرني } قال : فقد ضممت بهذا التأويل إلى فهمك الأول الذي استفدته من الخبر فهم المعرفة الحقيقية الذي أفاد له طباعك بالعبرة ، ونبه بالوصف بالفطر على دليل اعتقاده أي الذي شق العدم فأخرجني منه ثم شق هذه المشاعر والمدرك ، ومن كان بهذه القدرة الباهرة كان منفرداً بالعظمة .

ولما كان الله سبحانه - وله المنّ - قد أنعم بعد الإيجاد بما أشار إليه من العقل والحواس المهيئ ، للهداية من غير طلب ، فكان جديراً بأن يمنح قاصده بأعظم هداية قال مسبباً عن قطعه العلائق من سواه ، مؤكداً لأجل من ينكر وصوله إلى حد عمي عنه أسلافه { فإنه سيهدين } أي هداية هي الهداية إلى ما لاح لي من الحقائق من كل ما يصلحني لتوجهي إليه وتوكلي عليه ، لا مرية عندي في هذا الاعتقاد ، وقد أفاد بهذه المقترنة بالسين هدايته في الاستقبال بعد أن أفاد بقوله المحكي في الشعراء { فهو يهدين } الهداية في الحال وكأنه خص هذا بالسين لأجل ما عقبها به من عقبه ، فجعل هدايتهم هدايته .