اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ} (26)

قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار حجة إلا تقليد الآباء ، ثم بين أنه طريق باطل ، وإن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد أردفه بهذه الآية ، وهو وجه آخر يدل على فساد التقليد من وجهين :

الأول : أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه تبرأ من دين آبائه بناء على الدليل وذلك أن تقليد الآباء في الأديان إما أن يكون محرماً أو جائزاً . فإن كان محرماً فقد بطل القول بالتقليد ، وإن كان جائزاً فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأنهم لا يشرفو( ن ) ولا يفتخرو( ن ) إلا بكونهم من أولاده . وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء . وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول : إنه ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء ، فوجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد{[49754]} .

الوجه الثاني : أنه تعالى بين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جَرَم جعل الله دينَه ومذهَبه باقياً في عَقِبِهِ إلى يوم القيامة ، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبَطُلَتْ . فثبت أن الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة ، وأن التقليدَ ينقطع أثره{[49755]} .

قوله : «بَرَاءُ » العامة على فتح الباء ، وألف وهمزة بعد الراء وهو مصدر في الأصل وقع موقع الصفة وهي بَريءٌ ، وبها قرأ الأعمش{[49756]} . ولا يثنى «بَرَاءٌ » ولا يجمعُ ، ولا يؤنثُ ، كالمصادر في الغالب . قال الزمخشري{[49757]} والفراء{[49758]} والمبرد{[49759]} : لا يقولون البَرَاءَانِ ، ولا البَرَاءُونَ ؛ لأن المعنى ذَوَا البَرَاءَ( ةِ ) وذَوُو{[49760]} البراءة . فإن قلت : منك{[49761]} ثنيت وجمعت .

وقرأ الزعفرانيُّ وابنُ المبارك{[49762]} عن نافع بضم الباء ، بزنة طُوال وكُرام ، يقال : طَوِيلٌ وطُوالٌ ، وبَرِيءٌ ، وبُرَاء . وقرأ الأعمش بنون واحدة{[49763]} .


[49754]:المرجع السابق نفسه.
[49755]:المرجع السابق.
[49756]:نقلها أبو حيان في البحر المحيط 8/11، قال: وهي لغة نجد وشيخه، وكذلك نقلها صاحب مختصر شواذ القراءات وهو ابن خالويه: إني بريء في موضع براء الأعمش، وكذلك في مصحف عبد الله. انظر مختصر شواذ القراءات 135.
[49757]:قال: "ولذلك استوى فيه الواحد ولاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث يقال: نحن البراء منك، والخلاء منك". الكشاف 3/484.
[49758]:قال في معاني القرآن 3/30: "العرب تقول: نحن منك البراء والخلاء والواحد والاثنان والجميع من المؤنث والمذكر يقال فيه: براء؛ لأنه مصدر، ولو قال: بريء لقيل في الاثنين: بريئان، وفي القوم بريئون وبرآء".
[49759]:وكذا هو رأي الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/409 وكذا الكسائي. انظر القرطبي 16/76 والفخر الرازي 27/208.
[49760]:ما كتبه أعلى هو الأصح ففي النسختين ذو، بواو واحدة.
[49761]:كذا في النسختين منك، أي بريء منك. وفي الرازي: "فإن قلت بريء ثنيت وجمعت".
[49762]:في البحر: وقرأ الزعفراني عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع بضم الياء وهنا ابن المبارك في النسختين.
[49763]:المرجع السابق البحر والدر المصون ومختصر ابن خالويه 135 والإتحاف 385.