فكان الجواب : هم { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ } أى بطل وضاع بالكلية سعيهم وعملهم فى هذه الحياة الدنيا بسبب إصرارهم على كفرهم وشركهم ، فالجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف .
وقوله { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } أى : والحال أنهم يظنون أنهم يقدمون الأعمال الحسنة التى تنفعهم .
فالجملة الكريمة حال من فاعل { ضل } أى : ضل وبطل سعيهم ، والحال أنهم يظنون العكس . كما قال - تعالى - : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } وهذا هو الجهل المركب بعينه ، لأن الذى يعمل السوء ويعلم أنه سوء قد ترجى استقامته . أما الذى يعمل السوء ويظنه عملا حسنا فهذا هو الضلال المبين .
والتحقيق أن المراد بالأخسرين أعمالا هنا : ما يشمل المشركين واليهود والنصارى ، وغيرهم ممن يعتقدون أن كفرهم وضلالهم صواب وحق .
{ قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الّذِينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يبغون عَنَتَك ويجادلونك بالباطل ، ويحاورونك بالمسائل من أهل الكتابين : اليهود ، والنصارى هَلْ نُنَبّئُكُمْ أيها القوم بالأَخْسَرِينَ أعمالاً يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبغون به ربحا وفضلاً ، فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا ، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلاً وربحا ، فخاب رجاؤه ، وخسر بيعه ، ووكس في الذي رجا فضله .
واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بذلك ، فقال بعضهم : عُنِي به الرهبانْ والقسوس . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا المقبري ، قال : حدثنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرني السكن بن أبي كريمة ، أن أمه أخبرته أنها سمعت أبا خميصة عبد الله بن قيس يقول : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول في هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً : هم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت حيوة يقول : ثني السكن بن أبي كريمة ، عن أمه أخبرته أنها سمعت عبد الله بن قيس يقول : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول ، فذكر نحوه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن هلال بن يِساف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي : وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا أهم الحَرورية ؟ قال : هم أصحاب الصوامع .
حدثنا فضالة بن الفضل ، قال : قال بزيع : سأل رجل الضحاك عن هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال : هم القِسيسون والرهبان .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن منصور ، عن هلال بن يِساف ، عن مصعب بن سعد ، قال : قال سعد : هم أصحاب الصوامع .
حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا جرير ، عن منصور ، عن ابن سعد ، قال : قلت لسعد : يا أبت هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً أهم الحَرورية ، فقال : لا ، ولكنهم أصحاب الصوامع ، ولكن الحَرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم .
وقال آخرون : بل هم جميع أهل الكتابين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن مصعب بن سعد ، قال : سألت أبي عن هذه الاَية قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً الّذينَ ضَلّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدّنْيا أهم الحَرورية ؟ قال : لا ، هم أهل الكتاب ، اليهود والنصارى . أما اليهود فكذبوا بمحمد . وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحَرورية الّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ويَقَطْعُونَ ما أمَرَ اللّهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في الأرض أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ فكان سعد يسميهم الفاسقين .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم بن أبي حُرّة عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، في قوله قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال : هم اليهود والنصارى .
حدثنا القاسم ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي حرب بن أبي الأسود عن زاذان ، عن عليّ بن أبي طالب ، أنه سئل عن قوله : قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال : هم كفرة أهل الكتاب كان أوائلهم على حقّ ، فأشركوا بربهم ، وابتدعوا في دينهم ، الذين يجتهدون في الباطل ، ويحسبون أنهم على حقّ ، ويجتهدون في الضلالة ، ويحسبون أنهم على هدى ، فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ثم رفعِ صوته ، فقال : وما أهل النار منهم ببعيد . وقال آخرون : بل هم الخوارج . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان بن سَلَمة ، عن سلمة بن كُهَيل ، عن أبي الطفيل ، قال : سأل عبد الله بن الكوّاء عليا عن قوله : قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً قال : أنتم يا أهل حَروراء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا يحيى بن أيوب ، عن أبي صخر ، عن أبي معاوية البجلي ، عن أبي الصهباء البكريّ ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن ابن الكوّاء سأله ، عن قول الله عزّ وجلّ : هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً فقال عليّ : أنت وأصحابك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل ، قال : قام ابن الكوّاء إلى عليّ ، فقال : مَن الأخسرين أعمالاً الذي ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسبون صنعا ، قال : ويْلَك أهلُ حَروراء منهم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن خالد ابن عَثْمة ، قال : حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله ، قال : ثني أبو الحويرث ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، قال : قال ابن الكوّاء لعليّ بن أبي طالب : ما الأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا ؟ قال : أنت وأصحابك .
والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن يقال : إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله : هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً كلّ عامل عملاً يحسبه فيه مصيبا ، وأنه الله بفعله ذلك مطيع مرض ، وهو بفعله ذلك الله مسخط ، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم ، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة ، من أهل أيّ دين كانوا .
وقد اختلف أهل العربية في وجه نصب قوله أعمالاً ، فكان بعض نحويي البصرة يقول : نصب ذلك لأنه لما أدخل الألف واللام والنون في الأخسرين لم يوصل إلى الإضافة ، وكانت الأعمال من الأخسرين فلذلك نصب . وقال غيره : هذا باب الأفعل والفُعْلَى ، مثل الأفضل والفُضْلَى ، والأخسر والخُسْرَى ، ولا تدخل فيه الواو ، ولا يكون فيه مفسر ، لأنه قد انفصل بمن هو كقوله الأفضل والفُضْلَى ، وإذا جاء معه مفسر كان للأوّل والاَخر ، وقال : ألا ترى أنك تقول : مررت برجل حَسَنٍ وجها ، فيكون الحسن للرجل والوجه ، وكذلك كبير عقلاً ، وما أشبهه قال : وإنما جاز في الأخسرين ، لأنه ردّه إلى الأفْعَل والأَفَعَلة . قال : وسمعت العرب تقول : الأوّلات دخولاً ، والاَخرات خروجا ، فصار للأوّل والثاني كسائر الباب قال : وعلى هذا يقاس .
وقوله : الّذيِنَ ضَلّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدّنْيا يقول : هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة ، بل كان على جور وضلالة ، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به ، وهُمْ يحسَبُونَ أنّهُمْ يُحسِنُونَ صُنْعا يقول : وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون ، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون ، وهذا من أدلّ الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته ، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الاَية ، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً ، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك ، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم . ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم ، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه ، كانوا مثابين مأجورين عليها ، ولكن القول بخلاف ما قالوا ، فأخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة ، وأن أعمالهم حابطة . وزعني بقوله : أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا عملاً ، والصنّع والصنّعة والصنيع واحد ، يقال : فرس صنيع بمعنى مصنوع .
ثم قال : هم { الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } فقال سعد بن أبي وقاص هم عباد اليهود والنصارى ، وأهل الصوامع والديارات ، وقال علي بن أبي طالب هم الخوارج ، وهذا إن صح عنه ، فهو على جهة مثال فيمن ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن وروي أن ابن الكواء سأله عن { الأخسرين أعمالاً } فقال له أنت وأصحابك ، ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } وليس من هذه الطوائف من يكفر بلقاء الله ، وإنما هذه صفة مشركي عبدة الأوثان ، فاتجه بهذا ما قلناه أولاً وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواماً أخذوا بحظهم من صدر الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال: {الذين ضل سعيهم}، يعني: حبطت أعمالهم التي عملوها، {في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 103]
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد لهؤلاء الذين يبغون عَنَتَك ويجادلونك بالباطل، ويحاورونك بالمسائل من أهل الكتابين: اليهود والنصارى "هَلْ نُنَبّئُكُمْ أيها القوم بالأَخْسَرِينَ أعمالاً "يعني بالذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبغون به ربحا وفضلاً، فنالوا به عَطَبا وهلاكا ولم يدركوا طلبا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلاً وربحا، فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس في الذي رجا فضله. واختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بذلك:
فقال بعضهم: عُنِي به الرهبانْ والقسوس...
وقال آخرون: بل هم جميع أهل الكتابين...
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يقال: إن الله عزّ وجلّ عنى بقوله: "هَلْ نُنَبّئُكُمْ بالأَخْسَرِينَ أعمالاً" كلّ عامل عملاً يحسبه فيه مصيبا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مرض، وهو بفعله ذلك لله مسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أيّ دين كانوا...
"الّذيِنَ ضَلّ سَعْيُهُمْ في الحَياةِ الدّنْيا" يقول: هم الذين لم يكن عملهم الذي عملوه في حياتهم الدنيا على هدى واستقامة، بل كان على جور وضلالة، وذلك أنهم عملوا بغير ما أمرهم الله به بل على كفر منهم به،
"وهُمْ يحسَبُونَ أنّهُمْ يُحسِنُونَ صُنْعا" يقول: وهم يظنون أنهم بفعلهم ذلك لله مطيعون، وفيما ندب عباده إليه مجتهدون، وهذا من أدلّ الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته، وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، أن سعيهم الذي سعوا في الدنيا ذهب ضلالاً، وقد كانوا يحسبون أنهم محسنون في صنعهم ذلك، وأخبر عنهم أنهم هم الذين كفروا بآيات ربهم. ولو كان القول كما قال الذين زعموا أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يعلم، لوجب أن يكون هؤلاء القوم في عملهم الذي أخبر الله عنهم أنهم كانوا يحسبون فيه أنهم يحسنون صنعه، كانوا مثابين مأجورين عليها، ولكن القول بخلاف ما قالوا، فأخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم بالله كفرة، وأن أعمالهم حابطة...
ويعني بقوله:"أنّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا" عملاً...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا} يحتمل وجهين:...
والثاني: {ضل سعيهم} الذي سعوا في الدنيا بعبادتهم الأصنام في الآخرة لأنهم قالوا {ما نعذبهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} (الزمر: 3) وقالوا: {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} (يونس: 18) ونحوه. فَضَّلَ ما أملوا في الآخرة بسعيهم في الدنيا، والله أعلم...
{وهم يحسبون} بعبادتهم الأصنام التي عبدوها {أنهم يحسنون} بما أنفقوا على أولئك، ووسعوا {صنعا} أي خيرا أو معروفا؛ أي ليس ذلك بصنع، ولا خير. وفيه دلالة أنهم يؤاخذون بفعلهم الذي فعلوا، وإن جهلوا الحق. وهكذا قولنا: إن من فعل فعلا، وهو جاهل، فإنه يؤاخذ به بعد أن يكون له سبيل الوصول إلى الحق بالطلب والتعلم حين قال: {وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحياةِ الدُّنْيا "أي جازَ عنهم وهَلَكَ، وهُمْ مع ذلك "يَحْسِبُونَ "أي يَظُنُّونَ أنهم يَفعَلون الأفعالَ الجميلةَ، والحُسْبانُ هو الظّنُّ وهو ضِدُّ العِلْمِ...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ضلَّ سعيُهم لأنهم عَمِلُوا لغيرِ اللَّهِ. وما كان لغيرِ الله فلا ينفع. ويقال الذين ضلَّ سعيُهم هم الذين قَرَنُوا أعمالَهم بالرياء، ووصفوا أحوالَهم بالإعجاب، وأبطلوا إحسانهم بالملاحظات أو بالمَنِّ. ويقال هم الذين يُلاحِظُون أعمالهم وما مِنْهُم بعينِ الاستكثار.
قوله جلّ ذكره: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}. لم يكونوا أصحاب التحقيق، فعَمِلوا من غير عِلْمٍ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم وصفهم بضد ما يدعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال: {الذين ضل سعيهم} أي حاد عن القصد فبطل {في الحياة الدنيا} بالإعراض عمن لا ينفعهم ولا يضرهم إلا هو، والإقبال على ما لا نفع فيه ولا ضر {وهم} أي والحال أنهم مع ظهور ذلك كالشمس {يحسبون} لضعف عقولهم {أنهم يحسنون صنعاً} أي فعلاً هو في غاية الإحكام وهم في غاية الدربة به...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله {الذين ضل سعيهم} بدل من {بالأخسرين أعمالاً} وفي هذا الإطناب زيادة التشويق إلى معرفة هؤلاء الأخسرين حيث أجرى عليهم من الأوصاف ما يزيد السامع حرصاً على معرفة الموصوفين بتلك الأوصاف والأحوال.
والضلال: خطأ السبيل. شبه سعيهم غير المثمر بالسير في طريق غير موصلة.
والسعي: المشي في شدة. وهو هنا مجاز في العمل كما تقدّم عند قوله {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها} في سورة الإسراء (19)، أي عملوا أعمالاً تقربوا بها للأصنام يحسبونها مبلغة إياهم أغراضاً وقد أخطأوها وهم يحسبون أنّهم يفعلون خيراً...
والمعنى: الذين ضلوا في سعيهم...
وقد ضل سعي هؤلاء؛ لأنهم يفعلون الشر، ويظنون أنه خير فهم ضالون من حيث يظنون الهداية... ومعنى: {ضل سعيهم}: أي: بطل وذهب وكأنه لا شيء، مثل السراب كما صورهم الحق سبحانه في قوله: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.. "39 "} (سورة النور). وهؤلاء لا يبخسهم الله حقوقهم، ولا يمنعهم الأجر؛ لأنهم أحسنوا الأسباب، لكن هذا الجزاء يكون في الدنيا؛ لأنهم لما عملوا وأحسنوا الأسباب عملوا للدنيا، ولا نصيب لهم في جزاء الآخرة. وقد أوضح الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في قوله تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب "20 "} (سورة الشورى)...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فتَحَرّكوا في مواقع التِّيهِ، وعاشوا في أجواء الضَّياع الروحيِّ والفكريِّ والعمليِّ، بعيداً عن الخطوط المستقيمة التي تؤدّي إلى ساحات الأمان حيث الفلاحُ والنّجاةُ والنّجاحُ. وهم، في ذلك كلِّه، يُطْلِقون الأفكارَ في أكثرَ من اتجاهٍ، ويُخطِّطون للمشاريع على أكثرَ من صعيدٍ، ويُثيرون المشاعرَ في أكثرَ من مجتمعٍ، فيستسلِمون للفكرة الخادعةِ التي توحي إليهم بأنهم على حقٍّ، في الوقت الذي يتخبطون فيه في الباطل...
{وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ثم تنكشِف لهم الحقيقةُ، فيَسقُطون صَرْعَى الخَيْبةِ الكبيرةِ والخُسْرانِ العظيمِ والحَسْرةِ الكُبْرى...
وهؤلاء موجودون في كل زمانٍ ومكانٍ في أحد فريقين: الفريق الأول: الناس الذين يخضعون للتوجيه السيّئ والتخطيط الشرّير، فيحملون الفكر الشيطاني في حركة العقيدة ومنهج الحياة تحت وطأة أجواء الخديعة والتضليل، يقدسونه ويعظمونه ويرون فيه الخلاص كل الخلاص، والنجاح كل النجاح، لأنهم عاشوا تحت ضغط هذا الفكر وفي دائرة الحصار النفسي التي أحاطت بهم من كل جانبٍ، فلم تترك لهم نافذةً يطلون منها على الاحتمال المضاد والفكر الآخر. الفريق الثاني: الناس الذين يعرفون الحق، ولكنهم يتمردون عليه، ويعملون على أساس الانحراف عنه لأنه لا يتفق مع أطماعهم، ولا يخضع لشهواتهم، ولا يحقق لهم امتيازاتهم في الحياة... ولذلك فهم يحاولون أن يلتمسوا لأنفسهم طريقاً آخر، ويتبنون فكراً آخر يتكلفون فيه الإيحاء لأنفسهم لإقناعها بأنه سبيل النجاة، لأنه يحقق لهم أمانيهم وأحلامهم في الحياة الرخية السعيدة، والعيش العزيز الكريم، ويبقون يلفّون ويدورون حتى تتعمق الفكرة داخل قناعاتهم من موقع الغفلة العميقة عن حركة الحقيقة في داخلها... وربما كان الكافرون من هذا الفريق، لأن القرآن لا يجد الكفر ناشئاً من حالة شبهة مضادّة، بل من حالة فكرةٍ متبنّاةٍ من خلال الأهواء والمطامع. وهذا ما أرادت الآية التالية أن تثيره، كنموذجٍ لهؤلاء الناس الضائعين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً لأنفسهم وللآخرين...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
مفهومُ الخُسْرانِ لا يَنطبِق على خُسْران الأرباحِ وحَسْبُ، بل إِنَّ الخُسْرانَ الواقعيَّ هو خُسْرانُ أصلِ رأسِ المالِ، وهل هناك رأسُ مالٍ أَرْبَحُ وأَفْضَلُ وأَحْسَنُ مِن العقلِ والذّكاءِ والطّاقاتِ الإِلهيّةِ الموهوبةِ للإِنسان مِن عُمرٍ وشبابٍ وصِحّةٍ؟ إِنَّ نِتاج كلِّ هذه المواهبِ هي أعمالُ الإِنسانِ، وأعمالُ الإِنسان هي في الواقع انعكاسٌ وتجسيدٌ لطاقاتنا وقدراتِنا. عندما تَتحوَّل هذه الطاقاتُ إلى أعمالٍ مُخرَّبة أو غيرِ هادفةٍ، فكأنّها قد فَنِيَتْ أو ضاعتْ... الخسران الحقيقي والمضاعَف هو أن يَفقِد الإِنسان رأسمالَه الماديَّ والمعنويَّ في مَسالكَ خاطئةٍ ومجالاتٍ منحرِفةٍ ويَظُنّ أنَّهُ أَحْسَنَ العملَ، فهو في هذه الحالة لم يَحْصُلْ على ثمرةٍ لعمَلِه، وفي نفس الوقت لم يَلتفِتْ إلى ما هو فيه، فيُكرِّر العملَ...