ثم بعد هذا التنبيه الاجمالى إلى مآل المفسدين ، أخذت السورة تحكى لنا ما دار بين موسى - عليه السلام - وبين فرعون بصورة مفصلة فقالت : { وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أى : قال موسى - عليه السلام - لفرعون في أدب واعتزاز إنى رسول من رب العالمين ، أرسلنى إليك لأدعوك لعبادته والخضوع له .
وافتتاح القصة على ذلك النحو هو طريقة من طرق العرض القرآنية للقصص . وهذه الطريقة هي المناسبة هنا لسياق السورة ، وللمحور الذي تدور حوله . لأنها تعجل بالعاقبة منذ اللحظة الأولى - تحقيقاً للهدف من سياقتها - ثم تأخذ في التفصيل بعد الإجمال ، فنرى كيف سارت الأحداث إلى نهايتها .
فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه ؟
هنا يبدأ المشهد الأول بينهما :
( وقال موسى : يا فرعون إني رسول من رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق . قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل . قال : إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين . ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين . قال الملأ من قوم فرعون : إن هذا لساحر عليم ، يريد أن يخرجكم من أرضكم ، فماذا تأمرون ؟ قالوا : أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين . يأتوك بكل ساحر عليم ) . .
إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل ، وبين الإيمان والكفر . . مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى ( رب العالمين ) وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين !
وقال موسى : يا فرعون ، إني رسول من رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق . قد جئتكم ببينة من ربكم ، فأرسل معي بني إسرائيل . .
( يا فرعون ) . . لم يقل له : يا مولاي ! كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق ! ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز . . ناداه ليقرر له حقيقة أمره ، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود :
( إني رسول من رب العالمين ) . .
لقد جاء موسى - عليه السلام - بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله . حقيقة ربوبية الله الواحد للعالمين جميعاً . . ألوهية واحدة وعبودية شاملة . . لا كما يقول الخابطون في الظلام من " علماء الأديان " ومن يتبعهم في زعمهم عن " تطور العقيدة " إطلاقاً ، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين ! . . إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعا عقيدة واحدة ثابتة ؛ تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها . ولا تتطور من الآلهة المتعددة ، إلى التثنية ، إلى الوحدانية في نهاية المطاف . . فأما جاهليات البشر - حين ينحرفون عن العقيدة الربانية - فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية . . وسائر أنواع العقائد الجاهلية . . ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح ، الذي يقرر إلهاً واحداً للعالمين ؛ وتلك التخبطات المنحرفة عن دين الله الصحيح .
ولقد واجه موسى - عليه السلام - فرعون وملأه بهذه الحقيقة الواحدة ، التي واجه بها كل نبي - قبله او بعده - عقائد الجاهلية الفاسدة . . واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه . . إن ربوبية الله للعالمين تعني - أول ما تعني - إبطال شرعية كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره ؛ وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له - من دون الله - بإخضاعهم لشرعه هو وأمره . . واجهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولاً من رب العالمين . . ملزماً ومأخوذاً بقول الحق على ربه الذي أرسله .
و { فرعون } اسم كل ملك لمصر في ذلك الزمان فخاطبه موسى بأعظم أسمائه وأحبها إليه إذ كان من الفراعنة كالنمارذة في اليونان ، وقيصر في الروم ، وكسرى في فارس ، والنجاشي في الحبشة ، وروي أن موسى بن عمران بن فاهت بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، وروي أن اسم فرعون موسى عليه السلام الوليد بن مصعب ، وقيل هو فرعون يوسف وأنه عمر نيفاً وأربعمائة سنة .
قال القاضي أبو محمد : ومن قال إن يوسف المبعوث الذي أشار إليه موسى في قوله { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } هو غير يوسف الصديق فليس يحتاج إلى نظر ، ومن قال إنه يوسف الصديق فيعارضه ما يظهر من قصة يوسف ، وذلك أنه ملك مصر بعد عزيزها ، فكيف يستقيم أن يعيش عزيزها إلى مدة موسى ، فينفصل أن العزيز ليس بفرعون الملك إنما كان حاجباً له .
وقرأ نافع وحده { عليّ } بإضافة «على » إليه ، وقرأ الباقون «على » سكون الياء ، قال الفارسي : معنى هذه القراءة أن «على » وضعت موضع الباء ، كأنه قال حقيق بأن لا أقول على الله الحق كما وضعت الباء موضع «على » في قوله { ولا تقعدوا بكل صراط } فيتوصل إلى المعنى بهذه ، وبهذه وكما تجيء «على » أيضاً بمعنى عن ، ومنه قول الشاعر في صفة قوسه :
عُطف قول موسى بالواو ، ولم يفصل عمّا قبله ، مع أن جملة هذا القول بمنزلة البيان لجملة { بعثنا من بعدهم موسى } [ الأعراف : 103 ] ، لأنه لما كان قوله : { بآياتنا } [ الأعراف : 103 ] حالاً من موسى فقد فهم أن المقصود تنظير حال الذين أرسل إليهم موسى بحال الأمم التي مضى الإخبار عنها في المكابرة على التكذيب ، مع ظهور آيات الصدق ، ليتم بذلك تشابه حال الماضين مع حال الحاضرين المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم فجُعلت حكايةُ محاورة موسى مع فرعون وملئه خَبَراً مستقلاً لأنه لم يُحك فيه قوله المقارن لإظهار الآية بل ذكرت الآية من قبلُ ، بخلاف ما حكي في القصص التي قبلَها فإن حكاية أقوال الرسل كانت قبل ذكر الآية ، ولأن القصة هنا قد حكي جميعها باختصار بجُمَل { بَعَثْنَا } [ الأعراف : 103 ] ، { فظلموا } [ الأعراف : 103 ] ، { فانظر } [ الأعراف : 103 ] ، فصارت جملة : { قال } تفصيلاً لبعض ما تقدم ، فلا تكون مفصولة لأن الفصل إنما يكون بين جملتين ، لا بين جملة وبين عدة جمل أخرى .
والظاهر أن خطاب موسى فرعونَ بقوله : { يا فرعون } خطاب إكرام لأنه ناداه بالاسم الدال على الملك والسلطان بحسب متعارف أمته فليس هو بترفع عليه لأن الله تعالى قال له ولهارون { فقولا له قولاً لينّاً } [ طه : 44 ] ، والظاهر أيضاً أن قول موسى هذا هو أول ما خاطب به فرعون كما دلت عليه سورة طه .
وصوغ حكاية كلام موسى بصيغة التأكيد بحرف ( إن ) لأن المخاطب مظنة الإنكار أو التردد القوي في صحة الخبر .
واختيار صفة { رب العالمين } في الإعلام بالمرسِل إبطال لاعتقاد فرعون أنه رب مصر وأهلها فإنه قال لهم : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] فلما وصف موسى مُرْسلَه بأنه رب العالمين شمل فرعون وأهل مملكته فتبطل دعوى فرعون أنه إلاه مصر بطريق اللزوم ، ودخل في ذلك جميع البلاد والعباد الذين لم يكن فرعون يدعي أنه إلههم مثل الفرس والأشوريين .