نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡأٓخَرِينَ} (82)

ولما أفهم تخصيص ذريته بالبقاء إهلاك غيرهم ، وقدم ما هو أهل له من مدحه اهتماماً به وترغيباً في مثله ، أخبر عن أعدائه بأنه أوقع بهم لأنهم لم يتحلوا بما كان سبب سعادته من الإيمان بقوله : مشيراً إلى العظمة التي أوجدها سبحانه في إغراقهم بأداة التراخي : { ثم أغرقنا } أي بما لنا من العظمة التي لا يقوم لها شيء { الآخرين * } أي الذي غايروه في الأقوال والأفعال فاستحقوا أضداد أفعالنا معه وهم أهل الأرض كلهم غير أهل السفينة وكلهم قومه كما هو ظاهر الآيات إذا تؤمل تعبيرها عن الدعوة والإغراق ودعائه عليه السلام عليهم ، وظاهر ما رواه الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في حديث الشفاعة أن الناس يقولون :

" ائتوا نوحاً أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض " ، وإنما كانوا قوماً لا أكثر ، لأنهم كانوا على لسان واحد قبل بلبلة الألسن باتفاق أهل التأريخ ، وذلك كما أن العرب يطلق عليهم كلهم على انتشارهم واتساع بلادهم أنهم قوم ، لاجتماعهم في اللسان مع أنهم قبائل لا يحصيهم العد ، ولا يجمعهم نسب واحد إلا في إسماعيل عليه السلام ، وقيل فيما فوقه ، فإن النسابين أجمعوا على أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام ، قالوا : هو من ولد عدنان ، واختلفوا في قحطان أبي اليمن وكذا ثقيف ، فقيل : هما من ولد إسماعيل عليه السلام ، وقيل لا ، ثم من قال : إن ثقيفاً من ولد إسماعيل عليه السلام ، قالوا : هو من ولد عدنان ، وقال بعضهم : لا ، ثم إن من ولد عدنان ربيعة ومضر ، ومن دون مضر كنانة وهذيل والقارة وخزاعة وأسد وتميم ومزينة والرباب وضبة وقيس ، ودون ذلك باهله وأشجع وفزارة وكنانة وقريش وخلائق ، ومن دون ربيعة بكر بن وائل وغيرهم ، ومن دون ذلك شيبان وعبد القيس والنمر وخلائق ، ودون قحطان أبي اليمن لخم وجذام وعائلة وغسان وكندة وهمدان والأزد ، ومنهم الأنصار وخلائق غير ذلك ، فهؤلاء كلهم - على هذا التشعب والانتشار والاختلاف في الأديان ، بل وفي بعض اللغة - يسمون أمة واحدة وقوماً لجمع اللسان لهم في أصل العربية ، وبنو إسحاق ليسوا منهم بلا خلاف ، مع أنهم أولاد عمهم لمخالفتهم لهم في اللسان على أنهم أقرب من قحطان وثقيف في النسب عند من قال إنهم ليسوا من ولد إسماعيل عليه السلام ، وكذا بنو إسحاق عليه السلام افترقوا بافتراق اللسان ، فبنوا إسماعيل قوم ، وبنو العيص - وهم الروم - قوم ، وكذا سائر الأمم إنما يفرق بينهم اللسان ، وعموم دعوته لبني آدم عليه السلام على هذا الوجه لا يقدح في خصوصية نبينا صلى الله عليه وسلم بعموم الدعوة والأرسال إلى غير قومه ، أما العموم فإنه أرسل إلى كل من ينوس من الإنس والملائكة والجن ، وأما دعاء الأقوام فالمراد أنه أرسل إلى الموافق في اللسان والمخالف فيه ، وأما غيره فما أرسل إلى من خالفه في اللسان ولا إلى غير جنسه وإن كان يندب له أنه يأمر بالمخالفين في اللسان وينهاهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير وجوب ، ولو سلمنا في نوح عليه السلام أنه لم يبعث إلى جميع أهل الأرض انتقض بآدم عليه السلام فإنه نبي مرسل ، كما روى ذلك الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومحمد بن يحيى بن أبي عمر وأبو بكر بن أبي شيبة والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى الموصلي وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبراني في معجمه الأوسط عن أبي أمامة الباهلي وأبي ذر رضي الله عنهما وفي بعض طرق أبي ذر التصريح بالإرسال ولا يشك أحد أنه كان رسولاً إلى جميع من أدركه من أولاده ، وهم جميع أهل الأرض ، وكذلك نوح عليه السلام ، لا يشك أحد أنه كان بعد الغرق رسولاً إلى جميع أهل السفينة كما كان قبل ذلك : وهم جميع أهل الأرض ، فما قدمت من أن الخصوصية بالإرسال إلى ذوي الألسن المختلفة من جميع بني آدم ، وإلى المخالف في الجنس من كل من ينوس هو المزيل للإشكال - والله الموفق .