{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 33 ) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 34 ) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا( 1 ) فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 ) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 36 ) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 37 ) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء ( 38 ) فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ( 2 ) وَسَيِّدًا وَحَصُورًا ( 3 ) وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ( 39 ) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ( 40 ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا ( 4 ) وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( 41 ) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ ( 42 ) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ( 43 ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ( 5 ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ( 44 ) إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ( 6 ) اسْمُهُ الْمَسِيحُ ( 7 ) عِيسَى ( 8 ) ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ( 45 ) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 46 ) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( 47 ) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ( 48 ) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ ( 9 ) والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( 49 ) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ ( 50 ) إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ( 51 ) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ( 10 ) نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 52 ) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ( 53 ) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 54 ) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( 55 ) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( 56 ) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ( 57 ) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ( 58 ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ( 59 ) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ ( 60 ) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ ( 11 ) فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ( 61 ) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللّهُ وَإِنَّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 62 ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ( 63 ) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ ( 12 ) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 64 ) } [ 33 64 ] .
{ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ( 33 ) }
وما بعدها إلى آخر الآية [ 64 ]
ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عباراتها وتسلسلها . وقد احتوت ما خلاصته :
1 تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله ، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات . وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها ، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه ، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات ، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له ، وإيمان الحواريين به وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله . ورفع الله لعيسى بعد توفيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات .
2 وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب ؛ وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه .
3 وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين . فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم .
والآية [ 60 ] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا . ويصح أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم . وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها .
4 وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقر بها هو وإياهم على السواء : بأن لا يعبد كل منهم إلا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربا له . فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو من معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة .
وجمهور المفسرين{[411]} على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن . ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك . ولقد روى ابن هشام{[412]} عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل عمران من أولها إلى آخر الآية [ 64 ] وقال إنها نزلت في ذلك .
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا ، واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني .
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم . وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات . غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفيه . وفي دعوة المحاجين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده .
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد ، فلا نرى ضرورة إلى التكرار ؛ لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية . ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية . ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام . ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل ، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته . وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه .
وأسلوب الآيات [ 58 64 ] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع . من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق وحده ، ولا سيما أن ما فيها متسق مع ما يسلم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله أي تأويل .
ومضمون الآيات المذكورة وروحها وبخاصة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المحاجين إلى المباهلة ، والابتهال إلى الله بلعنة الكاذبين ثم أمر الله له بدعوتهم إلى كلمة سواء بينهم وبينه وإشهادهم إذا تولوا على أنه هو وأتباعه مسلمون لله تعالى فكل ذلك قوي رائع . ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المناظرة في موقف القوي الدافع المفحم الشاعر بقوة موقفه وصحة دعواه وصدق ما يقرره . وهذا المعنى القوي الرائع يظل واردا إزاء كل موقف مكابر في هذا الأمر في كل ظرف ومكان .
هذا ، وكثير مما جاء في الآيات من المتشابهات التي يمكن أن يرجع في حسمها إلى المحكمات أو الآيات التي فيها صراحة أكثر والتي يجب أن يوكل ما يعجز العقل الإنساني عن فهمه وتأويله إلى الله تعالى ويوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه مع استشفاف الحكمة منه .
وهذه بعض إيضاحات وتنبيهات في صدد ما احتوته الآيات على ضوء ذلك :
فأولا : إن في الآيات زيادات لم ترد في آيات سورة مريم وهو ما احتوته الآيات [ 33 38 و 42 44 و 47 57 ] وبعض ما جاء من هذه الزيادات مثل المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إحياء للموتى وإبراء للأكمه والأبرص . ومثل قول عيسى إنه مصدق للتوراة وإنه سوف يحل لهم بعض ما حرم عليهم . ومثل هتافه بمن يكون أنصاره حينما أحسّ من بني إسرائيل بالكفر واستجابة الحواريين لهتافه وإعلانهم إيمانهم . ومثل ما كان من مكرهم به . وخطاب الله لعيسى إنه متوفّيه ورافعه إليه وجاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا قد ورد في الأناجيل المتداولة المعترف بها صراحة وضمنا{[413]} . ولقد أوّل المؤولون جملة { ومكروا ومكر الله } بما كان من مكر يهوذا الأسخريوطي به وتسليمه إياه للسلطات وهذا مذكور في الأناجيل{[414]} . وأولها بعضهم بما كان من مكر اليهود به وهذا منثور في جميع الأناجيل . وننبه بهذه المناسبة إلى أن كلمة الحواريين لم ترد في الأناجيل الأربعة المعترف بها وقد سمّوا فيها ( تلامذة المسيح ) و( رسله ){[415]} .
وبعض ما جاء من الزيادات لم يرد في الأناجيل المتداولة المعترف بها مثل إعلان اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين . ونذر امرأة عمران ما في بطنها واعتذارها ودعائها وتعويذها لمريم وذريتها بالله من الشيطان واستجابة الله لها وعنايته بمريم وتكفيله إياها لزكريا ومثل قول الملائكة { إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } ومثل خلق عيسى من الطين كهيئة الطير ونفخه فيها لتكون طيرا بإذن الله . ونعتقد أن هذا مما كان متداولا بين النصارى في عصر النبي وبيئته وواردا في قراطيس كانت في أيديهم لم تصل إلينا . والروايات تذكر أنه كان أناجيل عديدة غير المتداول اليوم وغير المعترف بها فضاعت أو أبيدت على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف . وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول ما جاء في هذه الآيات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي . ومنها ما لم يعز إلى راو . وفيها أشياء كثيرة مما ورد في الأناجيل المتداولة مع زيادات وحواش ، وفيها أشياء كثيرة أخرى لم ترد في الأناجيل المتداولة ووردت الإشارة إليه في الآيات مع زيادات وحواش . ومن ذلك على سبيل المثال أن أم مريم كانت عاقرا فنذرت إن رزقها الله ولدا أن تجعله سادنا لبيت الربّ ، وأن مريم كانت بنت رئيس الكهان فخلفه على مهمته زكريا عديله فلما وضعت أم مريم ابنتها جاءت بها إلى بيت الرب فقال زكريا : أنا أحق بكفالتها فأبى سائر الكهنة ذلك ، ثم اتفقوا على الاقتراع فألقوا سهامهم في نهر الأردن فذهب النهر بجميعها عدا سهم زكريا فثبتت بذلك كفالته لها . وأن زكريا كان يجد فواكه الشتاء في الصيف وفواكه الصيف في الشتاء عند مريم . وأن أم يحيى كانت تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، وإن هذا مصداق الآية { مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ } في وصف يحيى . وأن المسيح سأل أي الطير أشد خلقا قالوا الخفاش فأخذ طينا وجعله على صورة الخفاش ثم نفخ فيه وقال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين يديه . وأن المسيح كان يخبر الغلمان بما صنعه أهلهم وخبأوه من طعام ، فيجد الغلمان حينما يعودون إلى بيوتهم الأمر كما أخبرهم . وأن عيسى أحلّ لبني إسرائيل الشحوم ولحوم الإبل وكان هذا مما حرمته التوراة إلخ . . إلخ . . حيث تدل الروايات التي اكتفينا بما أوردنا منها على أن ما جاء في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادات وحواش .
ونقول هنا ما قلناه في أعقاب آيات سورة مريم : إن من واجب المسلم أن يؤمن بكل ما جاء في الآيات من أخبار ومحاورات وخوارق . وسواء منها المتطابق مع الأناجيل المتداولة وغير المتطابق ، وكون ذلك في نطاق قدرة الله مع الإيمان بأنه لا بد لما ورد في الآيات من حكمة . والملموح من هذه الحكمة في الآيات أنها وقد نزلت في صدد المناظرة التي انعقدت بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران حول شخصية عيسى عليه السلام قد هدفت إلى تسفيه عقيدة بنوة المسيح من الله وألوهيته بشكل ما . وتقرير الحق من أمره . وهو أنه رسول أرسله الله ليدعو الناس إلى عبادته وحده وليقرر لهم أنه ربه وربهم وتصحيح ما ارتكسوا فيه من انحرافات . وأن كل ما هنالك أنه ولد بمعجزة وكان هو وأمه مظهر عناية الله وتكريمه ، وأن ذكر كون عيسى كلمة من الله هو على سبيل التعبير بالمعجزة الربانية من خلقه بدون مسّ رجل ، وأن التحجج بما في القرآن من عبارات في صدد ذلك هو من قبيل التحجج بالآيات المتشابهة دون المحكم الذي لا يفعله إلا من في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة . في حين أن المحكم صريح بتنزيه الله عن الولد والشريك والقسيم والتعدد والروح المادية التي تسري منه إلى غيره بأي شكل . ويكون مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان . وقد يكون من تلك الحكمة ما بين التقريرات القرآنية والأناجيل من تطابق حيث ينطوي في ذلك قصد الإفحام والإلزام . أما ما ليس متطابقا فهو من وجهة النظر الإسلامية محرّف والله تعالى أعلم . ولقد كان جمهور النصارى في بلاد الشام ومصر والعراق يدينون بمذهب لا يقول بالألوهية التامة لعيسى وبأنه بين بين من الناسوتية واللاهوتية وذو طبيعة واحدة مزيجة خلافا للسلطات الرومانية الحاكمة . وكان هذا الجمهور يتعرض لذلك لاضطهاد هذه السلطات . فلما جاءت جيوش الفتح الإسلامي إلى هذه البلاد أقبلت جماهير هذا المذهب على الصلح مع العرب . ولما عرفت ما في القرآن عن عيسى من كونه { وكلماته ألقاها إلى مريم وروح منه } وأن الله نفخ في فرجها وجعلها وابنها آية للعالمين ، وأن الله أرسل إليها روحه الذي تمثل لها بشرا ليهب لها غلاما زكيا وليكون آية للناس ورحمة منه . ومما جاء في بعض الآيات التي نحن في صددها وفي بعض آيات سورة مريم وسورة الأنبياء التي مرّ تفسيرها وفي الآية [ 170 ] من سورة النساء لمحت شيئا من التطابق بين ذلك وبين مذهبها فأقبلت على اعتناق الإسلام . وقد يكون ذلك من مظاهر أو نتائج تلك الحكمة والله تعالى أعلم .
وثانيا : قد تبدو الآية [ 44 ] مشكلة ؛ لأنها تنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يوحى إليه وخاصة في صدد ظروف ولادة مريم وكفالتها هو من أنباء الغيب . وإشكالها آت من ناحية ترجيحنا أن ما احتوته الآيات مما كان متداولا عند النصارى وغير مجهول عند العرب أو بعضهم . ولقد أشرنا إلى مثل هذا الإشكال في سياق تأويل الآية [ 49 ] من سورة هود والآية [ 102 ] من سورة يوسف اللتين تذكران أن ما أوحاه الله إلى النبي من قصص هود ويوسف هو من أنباء الغيب وعلقنا على ذلك بما نرجو أن يكون فيه الصواب . وينسحب ما قلناه على هذه الآية ، ولا نرى أن نزيد عليه إلا التنبيه على أن الروايات التي يرويها المفسرون عن ذلك تفيد أن ظروف ولادة مريم وكفالتها وما كان يجده زكريا عندها من رزق مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومما يحتمل أن لا يكون مجهولا من بعض العرب .
وثالثا : وقد يبدو ما ذكر في الآية [ 55 ] من أن الله تعالى جاعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة ثم يكون مصير المؤمنين به النعيم والكافرين به العذاب .
والمتبادر أن ذلك إنما هو في صدد الذين اتبعوا رسالة المسيح بجميع محتوياتها ولم ينحرفوا عنها . ومن جملة ذلك وحدة الله عز وجل وتنزيهه عن كل نقص وشائبة وتجزؤ وتعدد بأي شكل . واعتراف المسيح بأنه عبد الله ورسوله . ودعوته إلى الله وحده وهو ما حكاه القرآن وما في الأناجيل من نصوص متطابقة مع ذلك صراحة وضمنا مما أوردنا نماذج منه في تفسير سورة مريم . ومن جملة ذلك أيضا بشارة عيسى بالنبي محمد التي ذكرها القرآن في الآية [ 6 ] . ومن جملة ذلك كذلك ما في الإنجيل من صفاته مما أشير إليه في آية سورة الأعراف [ 157 ] التي تدعو أهل الإنجيل إلى اتباعه . ومقتضى كل ذلك أن يكون الذين يستحقون ذلك النعيم والتفضيل من أتباع عيسى هم الذين لم ينحرفوا عن رسالته إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بهذا النبي واتبعوه . أما المنحرفون عنها قبل بعثة محمد والكافرون برسالة محمد فهم من وجهة نظر العقيدة الإسلامية كفار كما قررت ذلك آيات عديدة منها آيات النساء [ 150 و 151 ] والمائدة [ 72 و 73 ] . ولقد قررت آية الأعراف [ 157 ] أن فريقا منهم اتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن ثبتت لهم صحة الدلائل المكتوبة عندهم على نبوته كما قررت ذلك آيات عديدة وردت في سور سبق تفسيرها وسور يأتي تفسيرها بعد مثل آيات القصص [ 52 55 ] والإسراء [ 107 108 ] والرعد [ 36 ] والمائدة [ 82 85 ] وبهذا الشرح يزول كل إشكال .
وكلام المفسرين في هذه المسألة متطابق بالنتيجة مع هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب . ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ){[416]} . حيث ينطوي في الحديث تأييد نبوي لما قررناه .
ورابعا : وقد يبدو ما جاء في الآية [ 33 ] مشكلة أيضا بما احتوتاه من تقرير رباني مباشر باصطفاء آدم وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين . وآل عمران هم أسرة مريم . وكذلك في الآية [ 42 ] التي قررت أن الله اصطفى مريم على نساء العالمين . والمتبادر أن العبارة أسلوبية . وقد هدفت إلى التنويه بفضل المذكورين ومنزلتهم أو أفضليتهم على غيرهم في عصرهم بما امتازوا به من خصائص وفضائل صاروا بسببها من أصفياء الله . وقد يكون اصطفاء آل عمران ومريم متصلا بخاصة بمعجزة ولادة المسيح التي لم يكن لها مثيل وبما كان من تكريمه ورفعه .
وخامسا : وقد يثير ذكر آدم إشكالا من ناحية كون القرآن يقرر أنه أول إنسان خلقه الله ، في حين أن مفهوم الاصطفاء يفرض وجود آخرين معه يصطفي الله منهم من يصطفيه مما قد ينطبق على نوح وإبراهيم وآل عمران ومريم دون آدم . والمتبادر أن العبارة بالنسبة لآدم هي أيضا أسلوبية لا إشكال حقيقيا فيها من حيث إنه أبو جميع الذين اصطفاهم الله . ويمكن أن يقال مع ذلك : إن ذكر اصطفائه متصل بما كان من اختصاصه بالذكر في خلق الله له ونفخه فيه من روحه والإيذان بأنه جاعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وأمر الله الملائكة بالسجود له مما ذكرته آيات القرآن ، أو بما كان من اختصاصه بالمميزات التي اختص بها جنسه الإنساني دون غيره من مخلوقات الله الأخرى وبخاصة الحيوانات التي بينها وبين هذا الجنس تشارك في كثير من الصفات حتى صار خلقا آخر كما جاء في الآية [ 14 ] من سورة المؤمنون . وكلام المفسرين في هذه الأمور متطابق كذلك بالنتيجة مع هذه التقريرات . ولقد قال بعضهم : إن الاصطفاء لآل إبراهيم وآل عمران هو بالنسبة للمؤمنين منهم . وهذا وجيه . وقال بعضهم : إن النبي والعرب يدخلون في ذكر آل إبراهيم تكذيبا لليهود الذين كانوا يقولون : إنهم شعب الله المختار ، من حيث إن إبراهيم ليس فقط جد بني إسرائيل الذين ينتسبون إلى يعقوب وإسحق أبي يعقوب الذي هو ابن إبراهيم بل هو أيضا أبا لإسماعيل الذي ينتسب إليه العرب وأبا لأولاد آخرين ولدوا له من زوجته قطوره على ما جاء في الإصحاح ( 25 ) من سفر التكوين .
وسادسا : لقد كانت الآية [ 55 ] التي ذكر فيها رفع عيسى عليه السلام بعد توفيه موضوع بحوث وتأويلات وروايات{[417]} معزوة إلى ابن عباس وغيره بالنسبة لمفهوم التوفي والرفع وما إذا كان عيسى عليه السلام مات ثم رفع ، أو رفع دون موت ، وما إذا كان رفع بروحه أو بروحه وجسده . وما قد يترتب على ذلك من تصادم مع آيات قرآنية أخرى وأحاديث نبوية إذا قيل إنه مات ثم رفع ؛ حيث جاء في سورة النساء هذه الآيات : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ( 157 ) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( 158 ) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا( 159 ) } وحيث روى الشيخان والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : ( والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ){[418]} . ثم قال أبو هريرة واقرأوا إذا شئتم : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا( 159 ) } وهناك حديث نبوي آخر طويل في الدجال رواه مسلم والترمذي وأبو داود ذكر فيه أن الله يبعث المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق{[419]} .
ومما رواه المفسرون وقالوه : إن التوفي هنا هو توفية أيام عيسى في الأرض كما قالوا : إن جملة { متوفيك ورافعك إليّ } بمعنى قابضك من الأرض بدون موت أو إني مميتك ثم رافعك إليّ . واستدلوا بالآية { الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى } سورة الزمر [ 42 ] على أن التوفي ليس معناه الإماتة حتما ودائما . وقالوا كذلك : إنه لا يصح أن يكون لعيسى حياة وموت ثم حياة وموت في الدنيا ؛ لأن الله إنما جعل لكل إنسان حياة مرة وموتا مرة في الدنيا ، ثم حياة في الآخرة عدا ما يكون أحياه الله بمعجزة مما ذكر في القرآن ووجب الإيمان به . ومع ذلك ، فقد رووا عن ابن عباس وغيره أن الله أماته ثم أحياه بضع ساعات أو بضعة أيام ورفعه إليه لتكريمه . .
وللسيد رشيد رضا في صدد ذلك كلام طويل يفيد أن التوفي بمعنى الموت والرفع بمعنى التكريم ، وأن الأحاديث النبوية هي أحاديث آحاد في أمور غيبية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي المشهور ، وإن نفي صلبه وقتله وكونه شبه عليهم لا ينفي موته موتة عادية ، وإن جملة { إلا ليؤمنن به قبل موته } في سورة النساء هي بالنسبة لأهل الكتاب وليست بالنسبة لعيسى عليه السلام . ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة .
ومهما يكن من أمر فإن الذي يتبادر لنا أن الآية إنما استهدفت التنويه بعيسى عليه السلام وفضله وكرامته عند الله ولم تستهدف تقرير واقعة . ولا سيما أن أسلوبها أسلوب خطاب موجه إلى عيسى قبل توفيه ورفعه . وأن الأولى الوقوف منها عند هذا الحد دون ما تزيد ولا تخمين .
ومعلوم أن المبشرين النصارى يحاجون المسلمين بهذه الآية لأن فيها اعترافا بموت عيسى قبل رفعه . وهذا يوافق عقيدتهم مع فارق واحد هو اعتقادهم أنه مات مصلوبا ويرون في الآية في الوقت نفسه نقضا لآية النساء التي تنفي قتل عيسى وصلبه . وتقرر أن الله رفعه إليه بأسلوب قد يفيد أن ذلك كان وهو حي . ولسنا نرى في الآيتين صراحة قطعية بموته قبل رفعه ولا رفعه وهو وحي . والعبارة تتحمل الصورتين . والقرآن نفى موته صلبا أو قتلا فليس للنصارى حجة في النص القرآني والحالة هذه حتى لو أول بأنه رفع بعد الموت . وسنستوفي البحث في موضوع آية النساء في مناسبتها إن شاء الله .
وسابعا : لقد روى المفسرون في سياق جملة { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 36 ) } حديثا رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه : ( قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسّ الشيطان إياه إلا مريم وابنها . واقرؤوا إذا شئتم { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( 36 ) }{[420]} . وروى المفسرون كذلك حديثا آخر رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه : ( كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب ){[421]} . ويلحظ بالنسبة للحديث الأول أنه يذكر أن الشيطان يمس المولود حين يولد وأنه ربط عدم طعن مريم وابنها بدعاء أم مريم ، مع أن هذا الدعاء كان بعد ولادة مريم بمدة ما ، ولقد رأى بعض المفسرين أن ما في الحديثين من قبيل التمثيل والتعبير عن طمع الشيطان في إغواء كل مولود . ولقد قال رشيد رضا : " إن الأحاديث هي آحادية ولا يؤخذ بها في العقائد ومبادئ الدين ، وإن صحت فيوكل الأمر فيها إلى الله ؛ لأنها متصلة بما أخبر به القرآن ووجب الإيمان به غيبا من وجود الشيطان ووسوسته للناس ومحاولته إغراءهم " . وفي هذا القول وجاهة ظاهرة . وقد يمكن أن يضاف إليه أن من الحكمة الملموحة في الأحاديث التساوق النبوي مع القرآن في تكريم مريم وابنها عليهما السلام في الآية التي ربط الحديث الأول بمضمونها والله تعالى أعلم . ولقد قال رشيد رضا إن دعاة النصرانية يشاغبون على عوام المسلمين بالأحاديث مستدلين بها على تفضيل عيسى على محمد عليهما السلام وهذا من عجيب تفاهاتهم . والأحاديث صدرت في مناسبة آية من آيات القرآن متساوقة معها . ومن العجيب أن هؤلاء الدعاة يتمسكون بحديث نبوي ويوردونه إثبات قوله ويتركون أحاديث نبوية كثيرة في فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام . نكتفي منها بهذا الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس قال : " جلس ناس من أصحاب النبي ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون . فقال بعضهم عجبا : إن الله عز وجل اتخذ من خلقه إبراهيم خليلا ، وقال آخر وكلّم الله موسى تكليما . وقال آخر وعيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر وآدم ونوحا اصطفاهما ، فسلّم النبي وقال : قد سمعت كلامكم وعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى نجيّ الله وهو كذلك ، وعيسى كلمة الله وروحه وهو كذلك ، وآدم ونوح اصطفاهما الله وهو كذلك ، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر . وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر " {[422]} .
تعليق على ما روي في صدد آية المباهلة
روى المفسرون روايات عديدة في صدد هذه الآية في صيغ مختلفة . معظمها يفيد أنها في صدد مناظرة وفد نجران . وواحدة منها تذكر أنها في صدد موقف حجاجي بين النبي واليهود . وورود الآية في سياق في صدد عيسى عليه السلام يجعل الرجحان للقول الأول . ومما جاء في الروايات التي تذكر أنها في صدد وفد نجران أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية غدا محتضنا الحسين وآخذا بيد الحسن وفاطمة أو فاطمة وعلي رضي الله عنهم يمشيان وراءه أو دعا هؤلاء وقال لهم : إذا دعوت فأمّنوا ، ثم جاء إلى وفد نجران فدعاه إلى المباهلة حسب نص الآية فاعتذر ، وقال ما ذكرناه في مناسبة سابقة من أنهم يكتفون منه بقوله : إن عيسى كلمة الله وروح منه وطلبوا منه الموادعة . وهناك رواية تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أبا بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده وعليا وولده رضي الله عنهم ليشتركوا معه في المباهلة والملاعنة ، وليس من شيء من هذه الروايات واردا في كتب الصحاح إلا حديث مقتضب لا يذكر المباهلة رواه مسلم والترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه قال : " لما أنزل الله الآية دعا النبي عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي " {[423]} .
ولقد شغل هذا الأمر حيزا كبيرا في احتجاجات الشيعة وتأويلاتهم . وكانت رواية أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين وفاطمة وعليا رضي الله عنهم معه إلى المباهلة عمادهم في ذلك . واعتبروها حقيقة يقينية وقالوا : إن جملة { وأنفسنا } عنت عليا ؛ لأن النبي هو الداعي فلا يكون مدعوا ، وإن عليا والحالة هذه أفضل الخلق بعد النبي وأفضل من سائر الأنبياء ؛ لأنه في مقام النبي محمد . وإن عدم اصطحاب النبي أحدا من نسائه واصطحابه فاطمة يدل على أن كلمة { ونساءنا } في الآية لا تعني زوجاته وإنما عنت بنته . وإن الحسن والحسين هما ابنا النبي ولو لم يكونا من صلبه لأنه اصطحبهما على اعتبار أنهما أبناؤه . وإنه لما كانت المباهلة لا تصلح إلا بين مكلفين فيكون صغر سنهما وعدم بلوغهما الحلم لا ينافيان كمال العقل والتكليف ، فضلا عن جواز خرق الله العادة للأئمة واختصاصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم .
والتكلف والتجوز والتعسف ، بل والمفارقة ظاهرة في كل ذلك مما يقع الشيعة في مثله وأكثر منه على ما مرّ منه أمثلة كثيرة . ولقد تغافلوا في تأويلاتهم عن كون النبي لا يمكن أن يناقض القرآن في تسمية بنته الوحيدة بنسائه ؛ حيث عنى القرآن بهذه الكلمة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في آيات سورة الأحزاب [ 28 30 ] كما تغافلوا عن أن الدعوة كانت مشتركة { تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } فلم يسألوا أنفسهم ماذا تكون عنت كلمة { وأنفسكم } بالنسبة للوفد حينما أولوها بالنسبة للنبي بعلي أي بغير النبي . ولم يرو أحد أن الوفد كان يصطحب نساء وأولادا . وأسلوب الآية أسلوب تحدّ وإفحام . وابن هشام الذي يروي خبر ما كان بين النبي ووفد نجران بالتفصيل ويورد آيات سورة آل عمران في سياق ذلك لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم استعد للمباهلة فعلا ، كما لم يذكر أنه أخذ فاطمة وعليا والحسن والحسين رضي الله عنهم للمباهلة . وكل ما ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى المباهلة فاستمهلوه لينظروا في الأمر ، ثم غدوا فقالوا له : رأينا يا أبا القاسم أن لا نلاعنك . وكل هذا يجعلنا نشك في الرواية ، ونرجح أنها من صنع الشيعة لتأييد أهوائهم كما فعلوا مثل ذلك كثيرا . ولقد تصدى الشيخ محمد عبده لهذه المسألة على ما جاء في تفسير رشيد رضا فقال : إن مصادر هذه الرواية الشيعة . ومقصدهم معروف . وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة . ولكن واضعيها لم يحسنوا تطبيقها على الآية ، فإن
{ ونساءنا } لا يقولها عربي ويريد بها ابنته إذا كانت له زوجة .
ولقد ذكرنا قبل أن ابن هشام أورد خبر قدوم وفد نجران بعد خبر وقعة بدر وقبل خبر وقعة أحد . وأن الفصل الطويل الذي يتفق المفسرون على أنه نزل في مناظرة وفد نجران والذي نحن في صدده قد وضع في السورة قبل فصل وقعة أحد . وأن ذلك يمكن أن يجعل وقت قدوم هذا الوفد عقب انتصار النبي والمسلمين على قريش في بدر وقبل وقعة أحد قوي الورود . وهذا الوقت يقارب أواخر السنة الهجرية الثانية ، ولقد أرخ الرواة زواج فاطمة وعلي رضي الله عنهما بالسنة الهجرية الثانية وولادة الحسن رضي الله عنه بالسنة الثالثة وولادة الحسين رضي الله عنه بالسنة الرابعة أو الخامسة{[424]} . وهذا يعني أن الحسن والحسين رضي الله عنهما اللذين تروي روايات الشيعة أن النبي صحبهما للمباهلة لم يكونا قد ولدا حينما نزلت آية المباهلة . .
هذا ، ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن رواية دعوة النبي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأولادهم هي أيضا مصنوعة لمقابلة روايات وتأويلات الشيعة المتعسفة مما له أمثال كثيرة روينا بعضها في مناسبات سابقة{[425]} .
والعلم يقتضينا أن نذكر أن هناك أحاديث أخرى وردت في الصحاح غير الحديث الذي رواه مسلم والترمذي وأوردناه قبل قليل في مناسبة آية المباهلة تروى في مناسبة آية سورة الأحزاب { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ( 33 ) } . ومنها حديث رواه عمر بن أبي سلمة قال : " لما نزلت هذه الآية دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء ثم قال : اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . قالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ، قال : أنت على مكانك وأنت إلى خير " {[426]} . وليس في الحديث ذكر لعلي . ولكن مؤلف التاج أورد الحديث في فصل الفضائل وفيه ذكر لعلي{[427]} ، ومنها حديث رواه كذلك مسلم والترمذي عن عائشة قالت : " خرج النبي صلى الله عليه وسلم غداة ، وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء عليّ فأدخله ثم قال : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا( 33 ) }{[428]} . ونحن نتوقف في هذه الأحاديث وفي الحديث الأول معا التي فيها إخراج لنساء النبي من تعبير { ونساءكم } في الحديث الأول من تعبير { أهل البيت } في الأحاديث الأخرى وحصر الأول في فاطمة وحصر الثاني في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ؛ لأن هذا مناقض لصراحة الآيات القرآنية . وسوف نزيد هذا الأمر شرحا في تفسير سورة الأحزاب ، والله تعالى أعلم .
استطراد إلى حديث مروي في صدد الآية
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ . . . } إلخ
من آيات السلسلة ورسالة النبي صلى الله عليه وسلم
لهرقل ملك الروم وشهادة لأبي سفيان وتعليق على ذلك
لقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال : " حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيّ قال : انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين النبي{[429]} فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب من النبي إلى هرقل جاء به دحية الكلبي فدفعه إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقال هرقل : هل هنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي . فقالوا : نعم . فدعيت في نفر من قريش فدخلنا على هرقل فأجلسنا بين يديه فقال : أيكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي ؟ فقال أبو سفيان : أنا ، فقال للنفر : إني سائل هذا عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي . فإن كذبني فكذبوه . ثم قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم ؟ قلت : هو فينا ذو حسب . قال : هل كان في آبائه ملك ؟ قلت : لا . قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت لا ، قال : أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم ؟ قلت : بل ضعفاؤهم . قال : يزيدون أم ينقصون ؟ قلت : لا بل يزيدون . قال : هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له ؟ قلت : لا . قال : فهل قاتلتموه ؟ قلت : نعم . قال : فكيف كان قتالكم إياه ؟ قلت : تكون الحرب بيننا وبينه سجالا يصيب منا ونصيب منه . قال : فهل يغدر ؟ قلت : لا . ونحن منه في هذه المدة لا ندري ما هو صانع فيها . قال أبو سفيان : والله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه . قال : فهل قال هذا القول أحد قبله ؟ قلت : لا . ثم قال : بم يأمركم ؟ قلت : يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف . قال : إن يك ما تقول فيه حقا فإنه نبي . وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم . ولو أني أعلم بأني أخلص إليه لأحببت لقاءه . ولو كنت عنده لغسلت قدميه ، وليبلغنّ ملكه ما تحت قدمي . ثم دعا بكتاب رسول الله فقرأه فإذا فيه : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم . سلام على من اتبع الهدى . أما بعد ، فإني أدعوك بدعاية الإسلام . أسلم تسلم . وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين . فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين . ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ) . فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الأصوات عنده وكثر اللغط فأخرجنا . فقلت لأصحابي حين أخرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة : إنه ليخافه ملك بني الأصفر . فما زلت موقنا بأمر رسول الله أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام . قال الزهري : فدعا هرقل عظماء الروم فجمعهم في دار له فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد آخر الأبد ، وأن يثبت لكم ملككم قال : فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت . فقال : عليّ بهم فدعا بهم . فقال : إني إنما اختبرت شدتكم على دينكم . فقد رأيت منكم الذي أحببت فسجدوا له ورضوا عنه " {[430]} .
ولقد روى كتاب السيرة والقدماء{[431]} أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل في السنة الهجرية السادسة بعد صلح الحديبية كتبا عديدة إلى ملوك الفرس والروم والحبشة ومصر وغسان والبحرين واليمامة وأمراء اليمن وأقيالها يدعوهم فيها إلى الإسلام ؛ حيث يتبادر أنه اغتنم فرصة هذا الصلح الذي أوقف حالة الحرب بينه وبين أقوى أعدائه . وكان قبل ذلك قد فرغ من تطهير المدينة من اليهود وخضد شوكتهم خضدا تاما في القرى التي هم فيها بين المدينة والشام ، وكانوا أقوى أعدائه بدورهم فرأى أن يبلغ دعوة الإسلام وصوته إلى العالم عن طريق الملوك والأمراء . وكان ذلك على الأرجح بعد نزول الآية بمدة ما . فأدخلها في نص كتاب الدعوة الذي أرسله إلى الكتابيين بخاصة .
وصيغة الآية قوية رائعة حيث تدعو أهل الكتاب إلى كلمة فيها كل الحق وكل العدل . يدين بها الجميع وهي أن لا يعبد إلا الله وألا يشرك به شيء . وألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، وحيث تأمر المسلمين إذا لم يستمع أهل الكتاب لهذه الدعوة . ويستجيبوا لها بأن يقولوا لهم : اشهدوا بأنا مسلمون لله مؤمنون بهذه العقيدة الصافية النقية .
وبعض المستشرقين يشككون في رواية كتب النبي لملوك الأرض العظام لأسباب تافهة لا تثبت على نقد . والرواية واردة في أقدم كتب السيرة والحديث . والحديث الذي أوردناه من الصحاح . وليس هناك أي سبب لاختراعهما وليس فيهما ما يتحمل شكا ، وقد أمر النبي بإبلاغ رسالته إلى جميع خلق الله دون أن يخشى شيئا في آية سورة المائدة هذه : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ 67 ] والشطر الأول من سورة المائدة نزل بعد صلح الحديبية بقليل ؛ حيث يدعم كل هذا بعضه بعضا . والله تعالى أعلم .