مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلۡتَ وَٱتَّبَعۡنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (53)

واعلم أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إيمانهم ، وعلى إسلامهم تضرعوا إلى الله تعالى ، وقالوا : { ربنا ءامنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين } وذلك لأن القوم آمنوا بالله حين قالوا : في الآية المتقدمة { آمنا بالله } ثم آمنوا بكتب الله تعالى حيث قالوا { بما أنزلت } وآمنوا برسول الله حيث ، قالوا { واتبعنا الرسول } فعند ذلك طلبوا الزلفة والثواب ، فقالوا { فاكتبنا مع الشاهدين } وهذا يقتضي أن يكون للشاهدين فضل يزيد على فضل الحواريين ، ويفضل على درجته ، لأنهم هم المخصوصون بأداء الشهادة قال الله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } [ البقرة : 143 ] الثاني : وهو منقول أيضا عن ابن عباس { فاكتبنا مع الشاهدين } أي اكتبنا في زمرة الأنبياء لأن كل نبي شاهد لقومه قال الله تعالى : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] .

وقد أجاب الله تعالى دعاءهم وجعلهم أنبياء ورسلا ، فأحيوا الموتى ، وصنعوا كل ما صنع عيسى عليه السلام .

والقول الثالث : { فاكتبنا مع الشاهدين } أي اكتبنا في جملة من شهد لك بالتوحيد ولأنبيائك بالتصديق ، والمقصود من هذا أنهم لما أشهدوا عيسى عليه السلام على إسلام أنفسهم ، حيث قالوا { واشهد بأنا مسلمون } فقد أشهدوا الله تعالى على ذلك تأكيدا للأمر ، وتقوية له ، وأيضا طلبوا من الله مثل ثواب كل مؤمن شهد لله بالتوحيد ولأنبيائه بالنبوة .

القول الرابع : إن قوله { فاكتبنا مع الشاهدين } إشارة إلى أن كتاب الأبرار إنما يكون في السماوات مع الملائكة قال الله تعالى : { كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } [ المطففين : 18 ] فإذا كتب الله ذكرهم مع الشاهدين المؤمنين كان ذكرهم مشهورا في الملأ الأعلى وعند الملائكة المقربين .

القول الخامس : إنه تعالى قال : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم } [ آل عمران : 18 ] فجعل أولو العلم من الشاهدين ، وقرن ذكرهم بذكر نفسه ، وذلك درجة عظيمة ، ومرتبة عالية ، فقالوا { فاكتبنا مع الشاهدين } أي اجعلنا من تلك الفرقة الذين قرنت ذكرهم بذكرك .

والقول السادس : أن جبريل عليه السلام لما سأل محمدا صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال : « أن تعبد الله كأنك تراه » وهذا غاية درجة العبد في الاشتغال بالعبودية ، وهو أن يكون العبد في مقام الشهود ، لا في مقام الغيبة ، فهؤلاء القوم لما صاروا كاملين في درجة الاستدلال أرادوا الترقي من مقام الاستدلال ، إلى مقام الشهود والمكاشفة ، فقالوا { فاكتبنا مع الشاهدين } .

القول السابع : إن كل من كان في مقام شهود الحق لم يبال بما يصل إليه من المشاق والآلام ، فلما قبلوا من عيسى عليه السلام أن يكونوا ناصرين له ، ذابين عنه ، قالوا { فاكتبنا مع الشاهدين } أي اجعلنا ممن يكون في شهود جلالك ، حتى نصير مستحقرين لكل ما يصل إلينا من المشاق والمتاعب فحينئذ يسهل علينا الوفاء بما التزمناه من نصرة رسولك ونبيك .