التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمٗا} (70)

{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ به لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا( 66 )وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا ( 67 ) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ( 68 ) وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ( 69 ) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا( 70 ) } .

في الفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير تنديدي بأن الله لو كتب على الذين هم موضوع الكلام السابق أن اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم ما استجاب إلى ذلك إلا قليل منهم . أما بقية الآية والآيات التالية لها فقد احتوت حثا وتدعيما لطاعة الله ورسوله والاستجابة لما يأمران به :

( 1 ) فإن الواجب والإيمان يقضيان بذلك .

( 2 ) ولو فعل الذين وقفوا ذلك الموقف ما يؤمرون به لكان أكثر نفعا وخيرا لهم وأشد تثبيتا لإيمانهم ولنالوا رضاء الله وأجره العظيم . ولشملهم بتوفيقه وهدايته إلى كل ما فيه خيرهم وصلاحهم ؛ لأن الذين يطيعون الله ورسوله هم رفقاء النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . ونعمت هذه الرفقة . وهذا هو فضل الله الذي يجب أن يتسابق إليه المسلمون .

تعليق على الآية

( وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم . . . ) الخ .

والآيات الثلاث بعدها

وقد روى المفسرون{[605]} أن مسلما ويهوديا تفاخرا فقال اليهودي : لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا . فقال مسلم : والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا ، فأنزل الله الآية الأولى أو الفقرة الثانية منها . ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى أنصاريا محزونا فسأله عن سبب حزنه . فقال له : نحن نغدو عليك ونروح وننظر في وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك فأحزنني ذلك ، فأنزل الله الآية الثالثة من الآيات ، فأرسل النبي إلى الأنصاري فبشره . رواية تذكر أن هذا المروي عن الأنصاري أو شيء مثله قد وقع من جماعة من أصحاب رسول الله وهناك روايات في صيغ أخرى من باب هذه الروايات .

والروايات لم ترد في الصحاح والآيات كما يبدو وحدة منسجمة وقد قال المفسرون إن ضمير الجمع الغائب فيها عائد إلى المنافقين موضوع الكلام في الآيات السابقة . وهذا حق ووجيه ويسوغ الترجيح بأن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما أوجبته من طاعة الله والرسول والتحاكم إلى الرسول والتسليم بأحكامه وبسبيل التنويه بمن يفعل ذلك والتنديد الشديد بالذين لم يفعلوا ذلك ووقفوا ويقفون مثل ذلك الموقف المكروه .

وهذا لا يمنع أن يكون للروايات أصل ما وأن تكون كل من الآيتين قد تليت في المناسبة المروية على سبيل الاستشهاد والتطبيق والله أعلم .

هذا ، والتنويه يطيعون الله ورسوله في الآية الأخيرة بليغ المدى ؛ حيث يتضمن بشرى بأنهم سيكونون مع تلك الطبقة المصطفاة من عباد الله . وهذا أمر مفهوم لأن طاعة الله ورسوله تعني التزام كل أمر وكل رسم وكل حد )وكل حث وكل نهي . وحينما يكون المرء على هذا القدر من الاستغراق يكون أهلا لتلك المرتبة . ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا نبويا فيه تقرير لهذا المعنى رواه الإمام أحمد عن عمرو ابن مرة قال ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وصليت الخمس . وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله : من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا ، ونصب أصبعيه ، ما لم يعق والديه ) .

ولقد وقف المفسرون عند كلمة ( والشهداء ) في الآية وأوردوا بعض الأحاديث التي فيها طوائف عديدة تحسب في عداد الشهداء منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( الشهداء خمسة : المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله ){[606]} ومع ذلك فالمتبادر لنا أن الكلمة تعني الشهيد في سبيل الله في الدرجة الأولى . ويجيء بعد هذه الآيات فصل في الجهاد وحض على القتال في سبيل الله حيث يمكن أن يكون مناسبة أو تأييد ما لهذا الترجيح والله أعلم .

ولقد وقفوا عند كلمة ( والصديقين ) وروى الطبري معنيين لها أحدهما أنها تعني اتباع الأنبياء الذين صدقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم . وثانيهما أنها بمعنى المتصدقين . وقد رجح الطبري أن الكلمة من الصدق لا من الصدقة وأنها مبالغة بمعنى الذي يكثر تصديق قوله بفعله .

ونحن نرجح القول الأول . ومع هذا فإن هناك حديثا رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ) . وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ) {[607]} ومعلوم أن أبا بكر رضي الله عنه كان يلقب بالصديق . وقد علل ذلك بأنه شديد التصديق وسريع التصديق لكل ما كان يقوله النبي ويخبر به ويفعله . فيجوز أن تكون هذه المعاني واردة بالنسبة للكلمة . وأكثر المؤولين على أن الصالحين هم الذين صلحت سيرتهم أو سريرتهم وعلانيتهم . وهم على ما يستلهم من روح الآية وترتيب الصفات في مرتبة دون المراتب الثلاث السابقة .

والصفات وترتيبها مما هو متساوق مع طبيعة الأشياء من حيث تفاوت عباد الله في الفضل بحسب سيرتهم وفضل الله عليهم .

ولمفسري الشيعة يرويه الطبرسي عن أبي عبد الله جاء فيه ( إن كلمتي الصديق والشهيد تعنيان الأئمة من آل محمد . وإن الصالحين ما عداهم من صالحي هذه الأمة ) وفي هذا تعسف ظاهر وحجر لفضل الله كما هو المتبادر .


[605]:انظر الطبري وابن كثير والخازن
[606]:التاج ج 4 ص 296 والمطعون الذي يموت في الطاعون والمبطون الذي يموت بوباء البطن والهدم الذي يموت بانهدام سقف عليه على ما جاء في شرح الشراح
[607]:التاج ج 5 ص 50