مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ذَٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمٗا} (70)

ثم قال تعالى : { ذلك الفضل من الله } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لا شك أن قوله تعالى : { ذلك } إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من وصف الثواب ، فلما حكم على كل ذلك بأنه فضل من الله دل هذا على أن الثواب غير واجب على الله ، ومما يدل عليه من جهة المعقول وجوه : الأول : القدرة على الطاعة إن كانت لا تصلح إلا للطاعة ، فخالق تلك القدرة هو الذي أعطى الطاعة ، فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا ، وإن كانت صالحة للمعصية أيضا لم يترجح جانب الطاعة على جانب المعصية إلا بخلق الداعي إلى الطاعة ، ويصير مجموع القدرة والداعي موجبا للفعل ، فخالق هذا المجموع هو الذي أعطى الطاعة ، فلا يكون فعله موجبا عليه شيئا . الثاني : نعم الله على العبد لا تحصى وهي موجبة للطاعة والشكر ، وإذا كانت الطاعات تقع في مقابلة النعم السالفة امتنع كونها موجبة للثواب في المستقبل . الثالث : أن الوجوب يستلزم استحقاق الذنب عند الترك ، وهذا الاستحقاق ينافي الإلهية ، فيمتنع حصوله في حق الإله تعالى ، فثبت أن ظاهر الآية كما دل على أن الثواب كله فضل من الله تعالى ، فالبراهين العقلية القاطعة دالة على ذلك أيضا ، وقالت المعتزلة : الثواب وإن كان واجبا لكن لا يمتنع إطلاق اسم الفضل عليه ، وذلك أن العبد إنما استحق ذلك الثواب لأن الله تعالى كلفه والتكليف تفضل ، ولأنه تعالى هو الذي أعطى العقل والقدرة وأزاح الأعذار والموانع حتى تمكن المكلف من فعل الطاعة ، فصار ذلك بمنزلة من وهب لغيره ثوبا كي ينتفع به ، فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب فكذا ههنا :

المسألة الثانية : قوله : { ذلك الفضل من الله } فيه احتمالان : أحدهما : أن يكون التقدير : ذلك هو الفضل من الله ، ويكون المعنى أن ذلك الثواب لكمال درجته كأنه هو الفضل من الله وأن ما سواه فليس بشيء ، والثاني : أن يكون التقدير : ذلك الفضل هو من الله ، أي ذلك الفضل المذكور ، والثواب المذكور هو من الله لا من غيره ، ولا شك أن الاحتمال الأول أبلغ .

ثم قال تعالى : { وكفى بالله عليما } وله موقع عظيم في توكيد ما تقدم من الترغيب في طاعة الله لأنه تعالى نبه بذلك على أنه يعلم كيفية الطاعة وكيفة الجزاء والتفضل ، وذلك مما يرغب المكلف في كمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه .