التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ذَٰلِكَ أَمۡرُ ٱللَّهِ أَنزَلَهُۥٓ إِلَيۡكُمۡۚ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُعۡظِمۡ لَهُۥٓ أَجۡرًا} (5)

{ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ( 4 ) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ( 5 ) } .

تعليق على الآية

{ واللائي يئسن من المحيض من نسائكم . . . }الخ

والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين

في الآية الأولى :

( 1 ) تعيين مدة ثلاثة أشهر عدة للائي انقطع حيضهن إذا كان هناك ارتياب .

( 2 ) وتعيين نفس المدة للائي انقطع حيضهن أو لم يحضن بالمرة بسبب بنيوي .

وتعيين وضع الحمل عدة للحاملات .

وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية ، ثم الآية الثانية توكيدا مكررا بوجوب تقوى الله وبيان ما يعود على المتقي من فوائد كبيرة ؛ حيث يجعل الله اليسر في أموره ويكفر سيئاته ويعظم له الأجر . وواضح أن هذا بسبيل تدعيم أوامر الله والتزام حدوده المرسومة في الآيات . وفيه ما هو ظاهر من توكيد العناية الربانية بالمرأة .

واليأس من المحيض في أصله هو : وصول المرأة إلى السن التي ينقطع عنها الحيض فيها عادة ، وتنتهي فيها قابليتها للحمل أي تيأس بعدها من الحمل . ولهذا سمى هذا السن بسن اليأس . غير أن المتبادر من فحوى العبارة القرآنية أنها بسبيل بيان لكون مدة الأشهر الثلاثة قد عنيت لحالة الارتياب فيما إذا كان انقطاع الحيض لغير سبب سن اليأس بالنسبة للمتقدمات في السن نوعا ما ، أو بسبب بنيوي ، أو لسبب صغر السن بالنسبة لغير المتقدمات في السن نوعا ما . ولقد روى الطبري عن بعض التابعين قولا في مدى الارتياب ، وهو أن يكون فيها إذا كان الدم دم حيض أو دم استحاضة والاستحاضة هي نوع من النزيف الدموي يكون في غير أوقات العادة الشهرية ، وقد يستمر على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة . والقول وجيه ولا يتعارض مع الشرح السابق .

والمتبادر أن الكلام عائد للمطلقات اللائي انقطع حيضهن أو كن حاملات .

ويلحظ أن عدة المطلقات اللائي يحضن لم تذكر هنا ، وذلك لأنها ذكرت في آية سورة البقرة( 227 ) وهي ثلاثة قروء ، ومدة الأشهر الثلاثة المعينة هنا تعدل مدة القروء الثلاثة . وقد روى البغوي أن خلاد ابن النعمان قال : ( يا رسول الله ما عدة من لا تحيض والتي لم تحض وعدة الحبلى فأنزل الله الآية ) وروى ابن كثير أن أبي ابن كعب قال ( يا رسول الله إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب : الصغار والكبار وأولات الأحمال فأنزل الله الآية ) .

والآيتان معطوفتان على ما قبلهما . واستمرار للسياق السابق في موضوع واحد . وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع سؤال عن الأمور التي احتوتها الآية الأولى في جملة ما وقع من ذلك في صدد ما احتوته الآيات السابقة . وهذا مألوف في التنزيل القرآني مما مر منه أمثلة كثيرة .

والأمر بتطليق النساء لعدتهن هو بسبيل منح الزوج فرصة لمراجعة زوجته أثناء العدة . ولما كانت عدة الحامل هي وضع حملها فتكون هذه الفرصة للزوج ممتدة إلى هذا الوقت طال أو قصر كما هو المتبادر . فإذا لم يراجع الزوج زوجته قبل وضعها ، فيكون قد أضاع الفرصة وتكون قد طلقت منه طلقة بائنة أسوة بمن لا يراجع زوجته غير الحامل والتي يأتيها الحيض أثناء عدتها التي هي ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر . وحينئذ تتوقف مراجعة الزوج لزوجته على عقد جديد ومهر جديد وتراض بين الزوجين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا آخر إذا لم تكن التطليقة هي الثالثة على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة ( 227 ) شرحا يغني عن التكرار .

ومع أن الكلام هو في صدد عدة الزوجات المطلقات فقد روى المفسرون أحاديث نبوية تجعل عدة الحامل المتوفي عنها زوجها هي وضع حملها أيضا ، وأحد هذه الأحاديث رواه البخاري عن أبي سلمة قال : ( جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة . فقال ابن عباس : آخر الأجلين قلت أنا : { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } قال أبو هريرة : أنا مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت : قتل زوج سبيعة الأسلمية ، وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها ){[2248]} وقول ابن عباس ( آخر الأجلين ) يعني أبعدهما . أي إذا كان الوضع قبل انقضاء عدة الحداد وهي أربعة أشهر وعشرة أيام تكون عدتها لتمام هذه المدة ، فكانت رواية أم سلمة ناقضة لهذا القول . وقد روي هذا الحديث بطرق أخرى . ومنها ما جاء عن لسان سبيعة نفسها جوابا على سؤال عن فتيا النبي صلى الله عليه وسلم لها{[2249]} ومما جاء في رواية أوردها البغوي وهو من علماء الحديث : أن أبا السنابل دخل على سبيعة فقال لها ( قد تصنعت للأزواج ؟ ) إنها أربعة أشهر وعشر ) فذكرت ذلك لرسول الله فقال ( كذب أبو السنابل أو ليس كما قال : أبو السنابل قد حللت فتزوجي ) وقد روى الطبري بطرقه إلى هذا حديثا عن أبي ابن كعب قال ( لما نزلت هذه الآية { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } قلت : يا رسول الله المتوفي عنها زوجها والمطلقة ؟ قال : نعم ) .

وقد استند أئمة الفقه إلى هذا ، فأجازوا زواج الحامل المتوفي عنها زوجها عقب وضعها ، وإن كان ذلك بعد وفاته بمدة قصيرة . والمتبادر أن التشريع النبوي توضيح لما سكت عنه القرآن ؛ لأن الآية ( 234 ) من سورة البقرة التي جعلت عدة الزوجة المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام جاءت مطلقة بحيث تصح على الحامل وعلى غير الحامل ، وأنه استهدف التخفيف عن المرأة مما هو متسق مع روح الآيات القرآنية وتلقينها بصورة عامة .


[2248]:التاج ج4 ص 239
[2249]:تفسير ابن كثير والخازن والبغوي