في السورة تشريعات تكميلية وإيضاحية لأحكام الطلاق والعدة والرضاع .
وتوكيد وتشديد بالتزام الحدود التي رسمها القرآن في هذا الموضوع والتي تهدف إلى الرفق بالمرأة ورعاية الحياة الزوجية . والفصل الآخر منها وإن لم يكن متصلا بموضوع فصلها الأول المذكور آنفا اتصالا مباشرا ، فإن فيه تدعيما له على ما سوف يأتي شرحه . وهو مقفى بعض الشيء مثله مما يسوغ القول : إنه نزل معه أو بعده كتعقيب عليه . وقد روي{[1]} عن ابن مسعود اسم آخر للسورة وهو ( سورة النساء الصغرى ) والراجح أن هذا الاسم مقتبس من موضوع السورة أيضا ، كما هو شأن اسمها المشهور .
وترتيب هذه السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الإنسان التي تأتي بعد سورة الرحمان التي تأتي بعد سورة الرعد التي تأتي بعد سورة محمد .
والسور الثلاث المذكورة قد فسرناها في سلسلة السور المكية لرجحان مكيتها على ما شرحناه قبل ، فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم مباشرة . وهي السورة الثانية التي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأولى هي سورة الأحزاب .
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ( 1 ) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ( 2 ) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ( 3 ) } .
{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن . . . }الخ .
والآيتين التاليتين لها وما فيها من أحكام وتلقينات
وجه الخطاب في الآيات إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصفته رئيس المسلمين كما هو المتبادر مع توجيهه إلى المسلمين في الوقت نفسه . وقد تضمنت ما يلي :
( 1 ) على الأزواج الذين يريدون تطليق زوجاتهم أن يطلقوهن في الوقت الذي يصح أن يكون بداية حساب العدة مع الاهتمام بإحصاء العدة .
( 2 ) ولا يصح للأزواج أن يخرجوا زوجاتهم من بيوتهن التي هن فيها قبل انتهاء عدتهن . كما لا يجوز لهن أن يخرجن منها . باستثناء حالة صدور فاحشة مبينة منهن ، وفي جملة { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ينطوي تعليل ذلك وهو كما يستلهم من روحها احتمال انبعاث رغبة المراجعة عند الزوجين والعدول عن الطلاق ؛ حيث يكون بقاء الزوجة في بيتها ميسرا لذلك .
( 3 ) وعلى الأزواج حينما تنتهي عدة الطلاق إما أن يعدلوا عن الطلاق ويبقوا على الرابطة الزوجية ، وإما أن يصمموا على الفراق ، فإذا عدلوا فيجب عليهم أن يكون إمساكهم لزوجاتهم بقصد الرغبة الصادقة في حسن المعاشرة على الوجه المتعارف عليه أنه الحق . أما إذا صمموا على الفراق فعليهم أن يسرحوا زوجاتهم بالحسنى وعلى الوجه المتعارف عليه أنه الحق كذلك .
ويجب استشهاد شاهدين عدلين من المسلمين على الطلاق والعدة والمراجعة . ويجب على الشهود أن يؤدوا شهادتهم بدون محاباة . وأن يراقبوا الله وحده فيها .
وقد نبهت الآيات إلى أن ما رسم فيها هو حدود الله التي لا تجوز مخالفتها . وأن من يتعداها يكون قد ظلم نفسه بما يعرضها له من الضرر في حياته ومن غضب الله وسخطه . وأن من يتقيه ويتوكل عليه ييسر له المخارج من المأزق ويرزقه من حيث لا يتوقع . وأن الله قد جعل لكل شيء حدا مقدرا ، وأن في ذلك تحقيق الأمر الذي اقتضته حكمته .
وواضح أن التنبيهات التي شرحناها في الفقرة الخامسة هي بسبيل تدعيم ما احتوته الآيات من حدود وأحكام . وهي قوية نافذة إلى القلوب والعقول معا .
ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآيات عن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق زوجته حفصة ، فأتت أهلها فأنزل الله ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } الآية فقيل له : راجعها فإنما هي صوامة قوامة ، وهي من نسائك في الجنة ، فراجعها ) وهذا النص لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن الخبر ورد فيها ؛ حيث روى أبو داود والنسائي عن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها ){[2245]} وليس في هذا النص إشارة إلى أن ذلك كان مناسبة لنزول الآيات .
وهذه الآية مع الآيات الست التالية لها في صدد واحد . وفيها توضيح لمسائل عديدة مما قد يسوغ القول : إن الأمر أعم من طلاق عادي صدر رسول الله لبعض زوجاته . وأنه قد وقعت أحداث متنوعة لم تكن آيات سورة البقرة في الطلاق كافية لبيان الحكم فيها فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات ، والله أعلم .
ولقد شرحنا كيفية الطلاق الرجعي ومسألة الطلاق البات مرة واحدة . وأوردنا الأحاديث الواردة في ذلك في سياق شرح آيات الطلاق في سورة البقرة ، فلا نرى حاجة إلى الإعادة وإنما نقول في مناسبة الآيات التي نحن في صددها : إن فيها وبنوع خاص في الأولى منها دليل قرآنيا ثانيا على أن التطليق الشرعي هو تطليق رجعي طهرا بعد طهر . وإن التطليق البات مرة واحدة ليس تطليقا شرعيا قرآنيا . أما الدليل الأول فهو في آية البقرة ( 229 ) في جملة { الطلاق مرتان } أي مرة بعد مرة .
وقد جعلت الآية ( 227 ) من آيات البقرة عدة المطلقة ثلاثة قروء ليستطيع الزوجان المطلقان أن يتراجعا خلالها إذا تراضيا في حين أن عدة المبتوتة قرء واحد لاستبراء الرحم . وفي هذا تدعيم قرآني آخر . وفي جملة { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها تعليل بليغ من حيث احتمال طروء ما يغير رغبة الفراق خلال مدة العدة وما جاء في الآيات من الأمر بإشهاد الشهود وإحصاء المعدة وأداء الشهادة على وجهها الحق . والتنبيه على أن ذلك حدود الله التي لا يجوز تعديها مما يدعم ما قلناه أيضا فضلا عما ينطوي فيه من قصد التدقيق في الحساب ، وتجنيب الناس الوقوع في المحظور .
ولقد محصنا في سياق تفسير آيات سورة البقرة ما ورد من آثار في صدد نفاذ الطلاق البات أو الطلاق الثلاث فنكتفي هنا بهذا التنبيه .
وجملة { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } تتحمل أن تكون بمعنى الزنا أو البذاءة على الزوج وأهله أو أذيتهم وسوء الخلق والسلوك معهم أو النشوز والتمرد على الزوج على ما ذكره المفسرون{[2246]} عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين . وهذا حق ؛ لأن فيه تعطيلا للغاية المستهدفة التي نبهنا عليها من بقاء المطلقة في بيت الزوجية فيصبح خروجها أو إخراجها منه أمرا لا مندوحة عنه .
وفي الآيات تكرار للمبدأ القرآني المقرر في آيات سورة البقرة ( 229 231 ) وهو : الإمساك بالمعروف أو المفارقة بالمعروف ؛ حيث ينطوي في ذلك عناية حكمة التنزيل في توكيد التزام هذا المبدأ في العلاقة الزوجية القائم على الحق والعدل وحفظ كرامة الزوجة في حالتي الإمساك والفراق .
ولقد روى المفسرون في صدد الفقرة { ومن يتق الله يجعل له مخرجا2 ويرزقه من حيث لا يحتسب } رواية تذكر أنها نزلت في مناسبة وقوع شاب مسلم في أسر الأعداء ، ومراجعة أبيه للنبي صلى الله عليه وسلم شاكيا أمره وفاقته فكان ينصحه بالصبر والإكثار من قول ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) فاتبع النصيحة النبوية فما عتم ابنه أن نجا من أسره ، وتمكن من استياق ماشية آسرية والعودة إلى أبيه سالما غانما ، فبادر الأب إلى النبي فأخبره الخبر فنزلت{[2247]} .
والفقرة جزء من آية ، والآية جزء من آيات . والمتبادر من الآيات أن المعنى المنطوي في الفقرة متصل بها ، من حيث إن فيها أمرا بتقوى الله في معاملة الزوجات وطلاقهن وعدتهن وإمساكهن بالمعروف أو مفارقتهن بالمعروف ، فاقتضت حكمة التنزيل أن ينبه المسلمون في سياق ذلك إلى ما في تقوى الله والتوكل عليه وتنفيذ أوامره والتزام حدوده من فوائد عظمى .
وهذا ليس من شأنه أن ينفي تلك الرواية . فمن المحتمل أن تكون صحيحة وإن لم ترد في كتب الصحاح وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلافي مناسبة الموقف في الآية فالتبس الأمر على الرواة . والآية على كل حال قد انطوت على تطمين رباني لمن يكون تقوى الله والتوكل عليه ديدنه وشعاره في كل شيء ، ومن الجملة سلوكه مع زوجته .
هذا ، وهناك حالة خطرت لنا ، وهي أن يعرض للمطلقة حاجات تقتضيها الخروج أثناء عدتها من بيت زوجها مؤقتا إذا ما كانت تنوي العودة وعادت فعلا ، والذي يتبادر لنا أن الأمر بعدم إخراجها وبعدم خروجها هو في صدد الخروج النهائي الذي يفوت به فرصة سهولة المراجعة أثناء العدة على ما تلهمه الآيات .
وأن الخروج الموقت لحاجة طارئة والعودة بعد قضائها ليس من شأنه أن يتعارض مع ذلك ، وإن لها أن تفعله . والله تعالى أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.