الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} (54)

وقرأ العامَّةُ " مُطَّلِعُوْنَ " بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ . " فاطَّلَع " ماضياً مبنياً للفاعل ، افْتَعَلَ من الطُّلوع .

وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون " فأُطْلِعَ " بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول . و " مُطْلِعُوْنَ " على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي : مُقْبِلون مِنْ قولِك : أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي : أَقْبَلَ ، وأَنْ يكونَ متعدياً ، ومفعولُه محذوفٌ أي : أصحابَكم .

وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار " مُطْلِعُوْنِ " خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ ، " فَأُطْلِعَ " مبنياً للمفعول . وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم ؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ ، والأصل : مُطْلِعُوْي ، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو : جاء مُسْلِميَّ العاقلون ، وقوله عليه السلام " أوَ مُخْرِجِيَّ هم " وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع ، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ . وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك :

3806 وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ *** أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح

/وإليه نحا الزمخشريُّ قال : " أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال : " يُطْلِعُونِ " . وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ . وذكر فيه توجيهاً آخر فقال : " أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ ، كقوله :

3807 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ورَدَّه الشيخ : بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه . لا يجوز : " هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها ، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي " قلت : إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ . وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ ، وقولِ الآخر :

3808 فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني *** وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ

وقول الآخر :

3809 وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ *** صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ

قولان ، أحدُهما : أنَّه تنوينٌ ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ ، وإنْ قلنا : إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ . والثاني : أنه ليس تنويناً ، وإنما هو نونُ وقايةٍ . واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه : وليس بمُعْيِيْني . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وبقوله أيضاً :

3810 وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً *** فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا

ووَجْهُ الدلالةِ من الأول : أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه ؛ لأنه منقوصٌ منونٌ ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن .

ووجهُها من الثاني : أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله : " والآمِرُوْنَه " وفي قولِه :

3811 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه *** جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ

فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها . وقال أبو البقاء : " ويُقْرأ بكسرِ النونِ ، وهو بعيدٌ جداً ؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ " . قلت : وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه ، وخروجٍ عن القواعد ، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة .

وقُرِئ " مُطَّلِعُوْن " بالتشديد كالعامَّة ، " فأَطَّلِعَ " مضارعاً منصوباً بإضمار " أَنْ " على جوابِ الاستفهامِ . وقُرِئ " مُطْلِعون " بالتخفيف " فَأَطْلَعَ " مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم . يُقال : طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع ، كأكْرم ، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد .

وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مصدرُ الفعلِ أي : أُطْلِعَ الإِطلاعُ . الثاني : الجارُّ المقدرُ . الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله ؛ لأنه يُقال : طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه ، فالهمزَةُ فيه للتعدية . وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في " لوامحه " فقال : " طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر ، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ . ومعنى ذلك : هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل . وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير : فأُطْلِعَ الإِطلاعُ ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي : أُطْلِعَ به ؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك " .

وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال : " قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ . وأمَّا قولُه : " أو حرف الجرِّ المحذوف أي : أُطْلِع به " فهذا لا يجوزُ ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه ، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا . لو قلت : " زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ " تريد : به أو عليه لم يَجُزْ " . قلت : أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ ، وإنما قال : بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ . ومعنى ذلك : أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج .