اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ هَلۡ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ} (54)

فصل

ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به{[47035]} منا «فاطّلع أنت » . قال ابن عباس : إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار .

قوله : { مُطَّلِعُونَ } قرأ العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع . وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ » بقطع ( ال ){[47036]} همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول{[47037]} ، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك : اطلع علينا فلان أي أقبل{[47038]} ، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ{[47039]} ، وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن{[47040]} أبي عمار : مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول{[47041]} ، ورد أبو حاتم وغيرُه{[47042]} هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو : جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - ( الصلاة و ) السلام- «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ »{[47043]} ، وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون فيه مع الضمير{[47044]} وأنشد الطبري على ذلك :

4207- وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي . . . كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي{[47045]} إلى قَوْمِي شَرَاحِ{[47046]}

وإليه نحا الزمخشري قال : أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما ( كأنه ){[47047]} قال يُطْلِعُونَ{[47048]} وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر{[47049]} . وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال : أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل{[47050]} كقوله :

4208- هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[47051]}

ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل{[47052]} وقع موقعه لا يجوز : «هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا » ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ » . قال شهاب الدين : وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل{[47053]} . ولِقَائلٍ أن يقول : لا أسلم{[47054]} أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال ( ه ){[47055]} الزمخشري ، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر :

4209- فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي . . . وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ{[47056]}

وقول الآخر :

4210- وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ . . . صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ{[47057]}

قولان :

أحدهما : أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير . وإن قلنا : إن الضمير بعده في محل نصب{[47058]} .

والثاني : أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية{[47059]} .

واستدل ابن مالك على هذا بقوله : وليس بمعييني ، وبقوله أيضاً :

4211- وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي ( وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ . . . صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق ){[47060]}

ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قبله لأنه منقوص منون ، والمنقوص المنون تحذف ياؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين ، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجامع التنوين . والذي يرجح القول الأول ثبوت النون في قوله : { وَالآمِرُونَهُ }{[47061]} ، وفي قول الآخر :

4212- وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ . . . جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه{[47062]}

فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها ، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون » . وهو بعيد جداً ؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تلحق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة{[47063]} وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد{[47064]} .

( وقُرِئَ{[47065]} مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً ) منصوباً ( بإضمار{[47066]} «أَنْ » على جواب الاستفهام ) . وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ َ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ : طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد{[47067]} . وأما قراءة من بنى الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع . {[47068]}

الثَّانِي : الجار المقدر{[47069]} .

الثَّالِثُ : - وهو الصحيح- أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال : طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية{[47070]} ، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال : طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل . ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون فأُقْبِل ، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع ، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََع لازم كما أن أقبل كذلك{[47071]} . ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن«أطْلَعَ » بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم . وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه{[47072]} فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله{[47073]} ، فكذلك هذا لو قلت : «زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ » تريد «بِهِ » أو «عَلَيْهِ » لم يجز{[47074]} .

قال شهاب الدين : أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال : بتقدير حرف الجر المحذوف . ( ومعنى{[47075]} ذلك ) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً{[47076]} انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج{[47077]} .


[47035]:في ب: بنا منا. وانظر البغوي 6/22.
[47036]:زيادة من أ.
[47037]:من القراءات المتواترة فقد رواها ابن مجاهد في السبعة 548 كما رويت في الإتحاف 369 وانظر أيضا المحتسب 2/219 ومختصر ابن خالويه 127 و 128.
[47038]:قاله ابن جني في المحتسب 2/219 و 220 والسمين في الدر 4/552.
[47039]:قاله أبو البقاء في التبيان 1090.
[47040]:لم أقف على ترجمة له.
[47041]:انظر: الكشاف 3/341 والبحر 7/361 والتبيان 1090 والبيان 2/304 وإعراب الزجاج 4/304 و 305.
[47042]:تكاد كل الكتب التي رجعت إليها تضعف هذه القراءة لهذه العلة المذكورة حيث الجمع بين الإضافة "الواو" والنون. قال بذلك الزجاج في معاني القرآن 4/304 و 305 والنحاس في الإعراب 3/422 ومعاني الفراء 2/385 والتبيان 2/1090 والبيان 2/304 و 305 ومشكل إعراب مكي 2/236 والقرطبي 15/83 والبحر 7/361، والسمين 4/552.
[47043]:ذكره الإمام البخاري في صحيحه 1/7 من حديث طويل عن عائشة رضي الله عنها.
[47044]:قال في المحتسب 2/220: والأمر على ما ذهب إليه أبو حاتم إلا أن يكون على لغة ضعيفة وهو أن يجرى اسم الفاعل مجرى الفعل المضارع لقربه منه، فيجرى "مطلعون" مجرى يطلعون وعليه قال بعضهم: أرأيت إن جئت به أملودا مرحلا ويلبس البرودا أقائلن أحضروا الشهودا فوكد اسم الفاعل بالنون وإنما بابها الفعل كقوله تعالى {لترون الجحيم}.
[47045]:في ب: أسلمني وهو ما يخالف روايته.
[47046]:من تمام الوافر وهو ليزيد بم محرم الحارثي وشاهده: "أمسلمني" حيث بقيت نون الوقاية مع اسم الفاعل وهي لا تكون إلا مع الفعل لأنها تقيه من الكسر الذي يخص الاسم. وذلك الذي نرى شاذ وقياسه أمسلمي كمخرجي السابق وقد تقدم.
[47047]:سقط من ب فقط.
[47048]:في الكشاف تطلعون.
[47049]:الكشاف 3/341.
[47050]:الكشاف 3/341.
[47051]:يروى: القائلون الخير ويروى: الآمرون الخير. من الطويل وهو مجهول القائل عجزه: ................ إذا ما خشوا مع محدث الأمر معظما والشاهد: الجمع بين النون (نون جمع المذكر) والإضافة (الهاء) وحكم المضمر أن يعاقب النون والتنوين لأنه بمنزلتهما في الاتصال والضعف وقد عاقب المظهر النون والتنوين مع قوته وانفصاله. وقد زعم سيبويه أنه مصنوع وانظر: الكتاب 1/188 وابن يعيش 2/125 ومجالس ثعلب 123 ومعاني الفراء 2/386 والكشاف 3/341 والدر 4/553 والخزانة 4/269 وكامل المبرد 1/364 والبحر 7/361.
[47052]:المرجع السابق.
[47053]:الدر 4/553.
[47054]:في ب: لا نسلم، وهذا رأي السمين الحلبي وعرضه في كتابه الدر. وقد رجح أبو حيان في البحر تخريج أبي الفتح وهو شبه الاسم للفعل. انظر: البحر 7/361 والسمين 4/553.
[47055]:الهاء زيادة من أ.
[47056]:من البسيط من أبيات لأبي محلم السعدي ويروى: ألا فتى من بني ذبيان. وشاهده حاملني حيث جاءت نون الوقاية مع اسم الفاعل والأصح: حاملي، كمسلمي ومخرجي، فالنون مع الفعل لهدف وهنا مع ياء المتكلم الذي مع الاسم لا هدف لها، ومن ثم تحتم الشذوذ، وانظر: الإنصاف 129 والبحر 7/361 والدر 4/553، وشرح الرضي على كافية ابن الحاجب 1/283 والكامل 1/363، 364. والرواية فيه يحملني وعليه فلا شذوذ فيه والخزانة 4/265 والبيان 2/305.
[47057]:من الطويل مجهول القائل. وشاهده كسابقيه في "معييني" وانظر: البحر 7/361 والأشموني 1/136 والدر المصون 4/554.
[47058]:نسب ابن هشام في المغني هذا الرأي إلى هشام الكوفي قال: وزعم هشام أن الذي في "أمسلمني" ونحوه تنوين لا نون وبنى ذلك على قوله في "ضاربني" أن الياء منصوبة. المغني 345.
[47059]:ظاهر كلام ابن مالك في التسهيل ص 25 قال وقد تلحق نون الوقاية مع اسم الفاعل وأفعل التفضيل.
[47060]:الواقع أن ما بين القوسين كله تخليط من الناسخ لبيت آخر هو السابق عليه وإنما البيت المعني هو: وليس الموافيني ليرفد خائبا فإن له أضعاف ما كان له أملا وهو من الطويل مجهول القائل والموافيني اسم فاعل من وافى كعادى وقاضىويرفد يعطي من الرفد وهو العطاء والشاهد: الموافيني فقد استدل ابن مالك على أن النون نون الوقاية لا تنوين لأنه لا يجامع الألف واللام. وانظر: توضيح المقاصد 1/166 والأشموني 1/126 والمغني 345 والمقاصد الكبرى للعيني 1/387 وأجاز رواية آملا والدر المصون 4/544.
[47061]:قد سبق عما قريب.
[47062]:من الطويل مجهول القائل. وروي: يرتهق بدل يرتفق. واحتضر بمعنى حضر وشهد والارتفاق الاتكاء والرواهق الذين جاءوه والمعتفي طالب المعروف يقول إنه لم يشغل عن قضاء حاجة الملهوف مهما كان الأمر وشاهده "محتضرونه" فقد جمع بين الواو جمع المذكر والهاء "الإضافة". والشاهد الآخر الذي نحن بصدده الآن أن هذا تأييد لوجهة نظر هشام الذي يقول: إن النون هي التنوين بدليل ثبوتها جمعا وتثنية. وانظر: الدر المصون 4/554 وابن يعيش 2/125 وشرح الكافية 1/283 والخزانة 4/271 وكامل المبرد 2/364 وكتاب سيبويه 1/188 وقد اتفقوا على أن هذا البيت من المصنوعات كما سبق في نظيره "الآمرونه".
[47063]:التبيان 1090.
[47064]:انظر: الدر المصون 4/554.
[47065]:ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب وقد روى أبو الفتح في المحتسب 2/219، 220 قراءة مطلعون فأطلع وانظر أيضا الدر المصون 4/554.
[47066]:ما بين القوسين الصغيرين سقط من ب وما بين الكبيرين كله ساقط من أ.
[47067]:الكشاف السابق والبحر 7/361.
[47068]:هذا رأي ابن جني في المحتسب المرجع السابق قال: "فالفعل إذا الذي هو اطلع مسند إلى مصدره أي فاطلع الاطلاع كقولك: قد قيم أي قيم القيام، وقد قعد أي قعد القعود".
[47069]:نقله أبو حيان عن أبي الفضل الرازي. انظر: البحر 7/361.
[47070]:هذا رأي أبي حيان في البحر المرجع السابق.
[47071]:المرجع السابق.
[47072]:كذا في أ والبحر وفي ب عن الفاعل.
[47073]:كذا الأصح منهما أيضا وفي ب فاعله تحريف.
[47074]:ورأي أبي حيان هذا سديد فثبت من هذا أن الفعل إذا بني للمجهول فإن النائب عن الفاعل هو ضمير القائل لأصحابه وانظر: البحر 7/362، 363 ونفس رأي أبي حيان هو رأي الفراء في معانيه 2/387 وانظر أيضا البيان 2/105 ومشكل الإعراب 2/236، 237 وإعراب النحاس 3/423 ومعاني الزجاج 4/304.
[47075]:كذا هي في الدر المصون و "أ". وحذفت من ب.
[47076]:وحروف الجر والظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها.
[47077]:قاله في الدر المصون 4/555.