ثم إن الرجل يقول لجالسائه يدعوهم إلى كَمَال السُّرُور بالاطِّلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } إلى النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به{[47035]} منا «فاطّلع أنت » . قال ابن عباس : إنَّ في الجنة كُوًى ينظر أهلها منها إلى النار .
قوله : { مُطَّلِعُونَ } قرأ العامة بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون فاطَّلَعَ ماضياً مبنياً للفاعل افتعل من الطلوع . وقرأ ابن عباس في آخرين - ويروى عن أبي عمرو - بسكون الطاء وفتح النون «فأُطْلِعَ » بقطع ( ال ){[47036]} همزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول{[47037]} ، ومطلعون على هذه القراءة يحتمل أن يكون قاصراً أي مقبلون من قولك : اطلع علينا فلان أي أقبل{[47038]} ، وأن يكون متعدياً ومفعوله محذوف أي أصْحَابَكُمْ{[47039]} ، وقرأ أبو البَرَهسم وحماد بن{[47040]} أبي عمار : مُطْلِعُونَ خفيفة الطاء مكسورة النون فأُطْلِعَ مبنياً للمفعول{[47041]} ، ورد أبو حاتم وغيرُه{[47042]} هذه القراءة من حيث الجمع بين النون وضمير المتكلم إذْ كَانَ قياسها مُطْلِعِيَّ ، والأصل مُطْلِعُوي فأبدل فأدغم نحو : جاء مُسْلِمِيَّ القَاطِنُونَ وقوله عليه - ( الصلاة و ) السلام- «أَوَ مُخْرِجيَّ هُمْ »{[47043]} ، وقد وجهها ابن جني على أنها أجري فيها اسم الفاعل مُجْرى المضارع يعني في إثبات النون فيه مع الضمير{[47044]} وأنشد الطبري على ذلك :
4207- وَمَا أَدْرِي وَظَنِّي . . . كُلَّ ظَنِّي أَمْسْلِمُنِي{[47045]} إلى قَوْمِي شَرَاحِ{[47046]}
وإليه نحا الزمخشري قال : أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخِ بينهما ( كأنه ){[47047]} قال يُطْلِعُونَ{[47048]} وهو ضعيف لا يقع إلا في شعر{[47049]} . وذكر فيه فيه تَوْجيهاً آخَر فقال : أراد مُطْلعُونِ إياي فوضع المتصل موضع المنفصل{[47050]} كقوله :
4208- هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[47051]}
ورده أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع المنفصل حتى يدعي أن المتصل{[47052]} وقع موقعه لا يجوز : «هِنْدٌ زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّاهَا » ولا «زَيْدٌ ضَارِبٌ إيَّايَ » . قال شهاب الدين : وإنما لم يجز ما ذكر لأنه إذا قدر على المتصل لم يُعْدَل إلى المنفصل{[47053]} . ولِقَائلٍ أن يقول : لا أسلم{[47054]} أنه يقدر على المتصل حالة ثبوت النون أو التنوين قبل الضمير بل يصير الموضع موضع الضمير المنفصل فيَصحّ ما قال ( ه ){[47055]} الزمخشري ، وللنحاة في اسم الفاعل المنوّن قبل ياء المتكلم نحو البيت المتقدم وقول الآخر :
4209- فَهَلْ فَتًى مِنْ سَرَاةِ الْقَوْمِ يَحْمِلُنِي . . . وَلَيْسَ حَامِلُنِي إلاَّ ابْنُ حَمَّالِ{[47056]}
4210- وَلَيْسَ بمُعْيِيني وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ . . . صَدِيقٌ وَقَدْ أَعْيَى عَلَيَّ صَدِيقُ{[47057]}
أحدهما : أنه تنوين وأنشد شذ ثبوته مع الضمير . وإن قلنا : إن الضمير بعده في محل نصب{[47058]} .
والثاني : أنه ليس تنويناً وإنما هو نون وقاية{[47059]} .
واستدل ابن مالك على هذا بقوله : وليس بمعييني ، وبقوله أيضاً :
4211- وَلَيْسَ الْمُوَافِينِي ( وَفِي النَّاسِ مُمْنِعٌ . . . صَدِيقٌ إذَا أعْيَا عَلَيَّ صديق ){[47060]}
ووجه الدلالة من الأول أنه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذف الياء قبله لأنه منقوص منون ، والمنقوص المنون تحذف ياؤه رفعاً وجراً لالتقاء الساكنين ، ووجهها من الثاني أن الألف واللام لا تجامع التنوين . والذي يرجح القول الأول ثبوت النون في قوله : { وَالآمِرُونَهُ }{[47061]} ، وفي قول الآخر :
4212- وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ . . . جَمِيعاً وَأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُه{[47062]}
فإن النون قائمة مقام التنوين تثنية وجمعاً على حدها ، وقال أبو البقاء «وتقرأ بكسر النون » . وهو بعيد جداً ؛ لأن النون إنْ كانت للوقاية فلا تلحق الأسماء وإن كانت نون الجمع لا تثبت في الإضافة{[47063]} وهذا الترديد صحيح لولا ما تقدم من الجواب عنه مع تكلف فيه وخروج عن القواعد{[47064]} .
( وقُرِئَ{[47065]} مُطّلعون بالتشديد كالعامة فأَطْلُعَ مضارعاً ) منصوباً ( بإضمار{[47066]} «أَنْ » على جواب الاستفهام ) . وقرئ مُطْلِعُونَ بالتخفيف فأطْلِعَ َ مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً على ما تقدم يُقالُ : طَلَع عَلَيْنَا فلانٌ وأَطْلَعَ كأَكْرَمَ واطَّلَعَ بالتشديد بمعنى واحد{[47067]} . وأما قراءة من بنى الفعل للمفعول ففي القائم مقام الفاعل ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مصدر الفعل أي اطَّلَعَ الاطِّلاَع . {[47068]}
الثَّانِي : الجار المقدر{[47069]} .
الثَّالِثُ : - وهو الصحيح- أنه ضمير القائل لأصحابه ما قاله لأنه يقال : طَلَعَ زَيْدٌ وأَطْلَعَهُ غَيْرَهُ فالهمزة فيه للتعدية{[47070]} ، وأما الوجهان الأولان فذهب إليهما أبو الفضل الرازي في لَوَامِحِهِ فقال : طلع واطّلع إذا بدا وظهر واطّلع اطّلاعاً إذا جاء وأقبل . ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون فأُقْبِل ، وإنما أقيم المصدر فيه مُقَامَ الفاعل بتقدير فاطلع الاطلاع ، أو بتقدير حرف الجر المحذوف أي أُطْلِعَ بِهِ لأن أَطْلََع لازم كما أن أقبل كذلك{[47071]} . ورد عليه أبو حيان هذين الوجهين فقال قد ذكرنا أن«أطْلَعَ » بالهمزة معدًّى بها من طلع اللازم . وأما قوله أو حرف الجر المحذوف أي اطلع به فهذا لا يجوز لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه لأنه نائب عنه{[47072]} فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله{[47073]} ، فكذلك هذا لو قلت : «زَيْدٌ مَمْرُورٌ أو مغْضُوبٌ » تريد «بِهِ » أو «عَلَيْهِ » لم يجز{[47074]} .
قال شهاب الدين : أبو الفضل لا يَدَّعي أن النائب عن الفاعل محذوف وإنما قال : بتقدير حرف الجر المحذوف . ( ومعنى{[47075]} ذلك ) أنه لما حذف حرف الجر اتَّسَاعاً{[47076]} انقلب الضمير مرفوعاً فاستتر في الفعل كما يدعى ذلك في حذف عائد الموصول المجرور عند عدم شروط الحذف ويُسَمَّى الحذف على التدريج{[47077]} .