الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ فَٱعۡبُدِ ٱللَّهَ مُخۡلِصٗا لَّهُ ٱلدِّينَ} (2)

قوله : { بِالْحَقِّ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالإِنزال أي : بسبب الحق ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب ، أي : مُلْتبسين بالحق أو ملتبساً بالحقِّ . وفي قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ } تكريرُ تعظيمٍ بسبب إبرازِه في جملةٍ أخرى مضافاً إنزالُه إلى المعظِّم نفسَه .

قوله : " مُخْلِصاً " حالٌ مِنْ فاعل " اعبد " ، و " الدين " منصوبٌ باسمِ الفاعلِ . والفاءُ في " فاعبُدِ " للربطِ ، كقولك : " أَحْسَنَ إليك فلانٌ فاشْكُرْه " . والعامَّةُ على نصبِ " الدينَ " كما تقدَّم . ورَفَعَه ابنُ أبي عبلة . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه مرفوعٌ بالفاعليةِ رافعُه " مُخْلِصاً " ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ تجوُّزٍ وإضمارٍ . أمَّا التجوزُ فإسنادُ الإِخلاصِ للدين وهو لصاحبِه في الحقيقة . ونظيرُه قولُهم : شعرٌ شاعرٌ . وأمَّا الإِضمارُ فهو إضمارٌ عائدٌ على ذي الحالِ أي : مُخْلِصاً له الدينَ منك ، هذا رَأْيُ البصريين في مثل هذا . وأمَّا الكوفيون فيجوزُ أَنْ يكونَ عندهم أل عوضاً مِن الضميرِ أي : مُخْلِصاً ديْنَك . قال الزمخشري : " وحَقٌّ لمَنْ رَفَعه أَنْ يَقرأ " مُخْلَصاً " بفتحِ اللامِ لقولِه تعالى : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } [ النساء : 146 ] حتى يطابقَ قولَه : { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } ، والخالِصُ والمُخْلَص واحدٌ إلاَّ أَنْ يصفَ الدينَ بصفةِ صاحبِه على الإِسنادِ المجازيِّ كقولِهم : شعرٌ شاعرٌ " . والثاني : أَنْ يَتِمَّ الكلامُ على " مُخْلِصاً " وهو حالٌ مِنْ فاعلِ " فاعبدْ " و " له الدينُ " مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذا قولُ الفراء . وقد رَدَّه الزمخشري ، وقال : " فقد جاء بإعرابٍ رَجَع به الكلامُ إلى قولِك : " لله الدينُ " { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } قلت : وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ لا يظهرُ فيه رَدٌّ على هذا الإِعرابِ .