تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قَالُواْ جَزَـٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَـٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (75)

لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف : { تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي : لقد تحققتم وعلمتم منذ{[15230]} عرفتمونا ، لأنهم{[15231]} شاهدوا منهم سيرة حسنة ، أنَّا ما جئنا للفساد في الأرض ، وما كنا سارقين ، أي : ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال{[15232]} لهم الفتيان : { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي : السارق ، إن كان فيكم { إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه{[15233]} ؟ { قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }

وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه . وهذا هو الذي أراد يوسف ، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله ، تورية ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة .

وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر ، قاله الضحاك وغيره .

وإنما قيض الله له أن{[15234]} التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما قال تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [ المجادلة : 11 ] .

{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم ، حتى ينتهي إلى الله عز وجل . وكذا رَوَى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم عليم [ فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم ، وهو فوق كل عالم ]{[15235]} وكذا روى سماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم . وهكذا{[15236]} قال عكرمة .

وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بُدئ وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله " وَفَوْقَ كُلِّ عالم عليم " .


[15230]:- في ت : "مذ".
[15231]:- في ت : "لا لأنهم".
[15232]:- في أ : "فقالت".
[15233]:- في أ : "فيهم من أخذها".
[15234]:- في ت : "أنه".
[15235]:- زيادة من ت ، أ.
[15236]:- في ت ، أ : "وكذا".

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالُواْ جَزَـٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَـٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (75)

فقال إخوة يوسف : جزاء السارق والحكم الذي تتضمنه هذه الألفاظ { من وجد في رحله فهو جزاؤه } ف { جزاؤه } الأول مبتدأ و { من } والجملة خبر قوله : { جزاؤه } الأول ، والضمير في { قالوا جزاؤه } للسارق{[6757]} ، ويصح أن تكون { من } خبراً عائدا على { من } ويكون قوله : { فهو جزاؤه } زياد بيان وتأكيد .

وليس هذا الموضع - عندي - من مواضع إبراز الضمير على ما ذهب إليه بعض المفسرين ، ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد بقوله { فهو جزاؤه }{[6758]} وقولهم هذا قول من لم يسترب بنفسه ، لأنهم التزموا إرغام من وجد في رحله ، وهذا أكثر من موجب شرعهم ، إذ حق شرعهم أن لا يؤخذ إلا من صحت سرقته ، وأمر بنيامين في السقاية كان محتملاً . لكنهم التزموا أن من وجد في رحله فهو مأخوذ على أنه سارق . وقولهم { كذلك نجزي الظالمين } ، أي هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة : أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق .

قال القاضي أبو محمد : وحكى بعض الناس : أن هذا الحكم كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع ، وهذا ضعيف ، ما كان قط فيما علمت ، وحكى الزهراوي عن السدي : أن حكمهم إنما كان أن يستخدم السارق على قدر سرقته وهذا يضعفه رجوع الصواع فكان ينبغي ألا يؤخذ بنيامين إذ لم يبق فيما يخدم .


[6757]:من رأي صاحب "البحر المحيط" أن هذا الإعراب لا يصح لخلو جملة الجواب من رابط يربطها بالمبتدأ.
[6758]:ذكر ابن عطية هنا إعرابين آخرين للجملة. الأول في قوله: "ويصح أن يكون [من] خبرا على أن المعنى: جزاء السارق من وجد في رحله، والضمير في [رحله] عائد على [من]، وقوله: {فهو جزاؤه} زيادة بيان وتأكيد. والثاني هو قوله: ويحتمل أن يكون التقدير: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله... الخ. وقد علق أبو حيان على الإعراب الثاني بقوله: "وهذا القول هو الذي قبله غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله: (استرقاق من وجد في رحله)، وفيما قبله لابد من تقديره، لأن الذات لا تكون خبرا عن المصدر، فالتقدير في الذي قبله: جزاؤه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق من وجد في رحله، فهذا لابد منه على هذا الإعراب". ومعنى هذا أن القولين قول واحد. وفي رأي أبي حيان أن هذا الوجه الأخير في الإعراب هو أحسن الوجوه وأبعدها من التكلف.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالُواْ جَزَـٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَـٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (75)

قوله : { جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه } . { جزاؤه } الأول مبتدأ ، و { مَن } يجوز أن تكون شرطية وهي مبتدأ ثان وأن جملة { وجد في رحله } جملة الشرط وجملة { فهو جزاؤه } جواب الشرط ، والفاء رابطة للجواب ، والجملة المركبة من الشرط وجوابه خبر عن المبتدإ الأول . ويجوز أن تكون { من } موصولة مبتدأ ثانياً ، وجملة { وجد في رحله } صلة الموصول . والمعنى أن من وجد في رحله الصوَاع هو جزاء السرقة ، أي ذاته هي جزاء السرقة ، فالمعنى أن ذاته تكون عِوضاً عن هذه الجريمة ، أي أن يصير رفيقاً لصاحب الصواع ليتمّ معنى الجزاء بذات أخرى . وهذا معلوم من السياق إذ ليس المراد إتلاف ذات السارق لأن السرقة لا تبلغ عقوبتها حدّ القتل .

فتكون جملة { فهو جزاؤه } توكيداً لفظياً لجملة { جزاؤه من وجد في رحله } ، لتقرير الحكم وعدم الانفلات منه ، وتكون الفاء للتفريع تفريع التأكيد على الموكّد . وقد حَكَم إخوة يوسف عليه السلام على أنفسهم بذلك وتراضوا عليه فلزمهم ما التزموه .

ويظهر أن ذلك كان حُكماً مشهوراً بين الأمم أن يسترقَّ السارق . وهو قريب من استرقاق المغلوب في القتال . ولعله كان حكماً معروفاً في مصر لما سيأتي قريباً عند قوله تعالى : { ما كان ليأخذ أخاه في دِين الملك } [ سورة يوسف : 76 ] .

وجملة { كذلك نجزي الظالمين } بقيمة كلام إخوة يوسف عليه السلام ، أي كذلك حُكْم قومنا في جزاء السارق الظالم بسرقته ؛ أو أرادوا أنه حكم الإخوة على من يقدّر منهم أن يظهر الصواع في رحله ، أي فهو حقيق لأن نجزيه بذلك .

والإشارة ب { كذلك } إلى الجزاء المأخوذ من { نجزي } ، أي نجزي الظالمين جزاءً كذلك الجزاء ، وهو من وُجد في رحله .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{قَالُواْ جَزَـٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَـٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (75)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{قالوا جزاؤه من وجد في رحله}، يعني في وعائه، يعني المتاع، {فهو جزاؤه}، يعني هو مكان سرقته، {كذلك نجزي الظالمين}، يعني هكذا نجزي السارقين... وكان الحكم بأرض كنعان أن يتخذ السارق عبدا يستخدم على قدر سرقته، ثم يخلى سبيله، فيذهب حيث شاء، فحكموا بأرض مصر بقضاء أرضهم.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 74]

يقول تعالى ذكره: قال أصحاب يوسف لإخوته: فما ثواب السّرَق إن كنتم كاذبين في قولكم "ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَما كُنّا سارِقِينَ قالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ". يقول جلّ ثناؤه: وقال إخوة يوسف: ثواب السّرَق مَنْ وُجد في متاعه السّرَق فهو جزاؤه، يقول: فالذي وجد ذلك في رحله ثوابه بأن يُسْلَم بسرقته إلى من سرق منه حتى يسترقّه. "كذلكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ "يقول: كذلك نفعل بمن ظلم ففعل ما ليس له فعله من أخذه مال غيره سَرَقا...

عن معمر، قال: بلغنا في قوله: "قالُوا فمَا جَزَاؤُهُ إنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ" أخبروا يوسف بما يُحْكَم في بلادهم أنه من سَرَق أُخِذ عبدا، فقالوا: "جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ"...

ومعنى الكلام: قالوا: ثواب السّرَق الموجود في رحله، كأنه قيل: ثوابه استرقاق الموجود في رحله، ثم حذف «استرقاق»، إذ كان معروفا معناه، ثم ابتدئ الكلام فقيل: هو جزاؤه "كذلكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ"...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... قولهم هذا قول من لم يسترب بنفسه، لأنهم التزموا إرغام من وجد في رحله، وهذا أكثر من موجب شرعهم، إذ حق شرعهم أن لا يؤخذ إلا من صحت سرقته، وأمر بنيامين في السقاية كان محتملاً. لكنهم التزموا أن من وجد في رحله فهو مأخوذ على أنه سارق.

وقولهم {كذلك نجزي الظالمين}، أي هذه سنتنا وديننا في أهل السرقة: أن يتملك السارق كما تملك هو الشيء المسروق.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وقولهم:"جزاؤه من وجد في رحله"، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته، فكأنهم يقولون: لا يمكن أن نسرق، ولا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا...

ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه...

وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

والمعنى أن من وجد في رحله الصوَاع هو جزاء السرقة، أي ذاته هي جزاء السرقة، فالمعنى أن ذاته تكون عِوضاً عن هذه الجريمة، أي أن يصير رفيقاً لصاحب الصواع ليتمّ معنى الجزاء بذات أخرى. وهذا معلوم من السياق إذ ليس المراد إتلاف ذات السارق لأن السرقة لا تبلغ عقوبتها حدّ القتل. فتكون جملة {فهو جزاؤه} توكيداً لفظياً لجملة {جزاؤه من وجد في رحله}، لتقرير الحكم وعدم الانفلات منه، وتكون الفاء للتفريع تفريع التأكيد على الموكّد. وقد حَكَم إخوة يوسف عليه السلام على أنفسهم بذلك وتراضوا عليه فلزمهم ما التزموه.