قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته ، فلذلك قالوا : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي : فالسَّارقُ جزاؤه ، أي : فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه ، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق ، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق ، ويغرمه قيمة المسروق ، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم ؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم
قوله تعالى : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } فيه أربعة أوجه :
أحدهما : أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ ، و الضمير للسَّارق ، و " مَنْ " شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني ، والفاء جواب الشَّرط ، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و " مَنْ " وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ ، قاله ابن عطيَّة ، وهو مردودٌ ؛ لعدم رابط بين المبتدأ ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه ، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه .
وليس بظاهر ؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رحمه الله فإنَّه قال : " ويجوز أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر ، والأصل : جزاؤه ، من وجد في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضع " هو " كما تقول لصاحبك : مَنْ أخُوا زيدٍ ؟ فيقول لك : من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُو هو يرجع الضمير الأول إلى : " مَنْ " ، والثاني إلى الأخِ ، فتقولُ : " فهو أخوه " مقيماً الظاهر مقام المضمر " .
وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ ، ولم يعتقد أنه هو بعينه ، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة .
ثمَّ قال : " وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك ، نحو : قام زيدٌ ، وينزه عنه القرآن .
قال سيبويه : " لو قلت : كان زيدٌ منطلقا زيدٌ " لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً ، ولم يكن كقولك : مازيدٌ مُنْطلقاً هُوَ ؛ لأنك قد استغنيت عن إظَهاره ، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره " .
قال شهابُ الدِّين : ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً ، وعليه بنى الزمخشريُّ ، وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال :
والوجه الثالث : أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ ، و " مَنْ وُجِدَ " متبدأ ثان ، و " هُوَ " مبتدأ ثالثُ ، و " جَزَاؤهُ " خير الثالث ، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني " هُوَ " انتهى .
وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح ؛ إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء ؛ لأنَّه جعل " هُوَ " عبارة عن المبتدأ الثاني ، وهو : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } وجعل الهاء الأخيرة ، وهي التي في : " جَزاؤهُ " الأخير عائدةٌ على : " جَزاؤهُ " الأوَّل ، فصار التقدير كما ذكرنا .
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون : " جَزَاؤهُ " مبتدأ ، والهاء تعود على المسروق ، و { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره ، و " مَنْ " بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصّواع الذي وجد في رحله .
ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق ؛ لذلك استفتوا في جزائه ، وقوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } مبتدأ ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأول ، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ ، قال : " وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين ، قال : ويصحُّ أن يكون " مَنْ " خبراً على أن المعنى : جزاء السَّارق من وجد في رحله ، ويكون قوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة بيانٍ وتأكيد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد قوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } ، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره ؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ ، فالتَّقدير في القول قبله : جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه ، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب .
وهذا ظاهره ، أنه جعل المقول الواحد قولين .
الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون : " جَزاؤهُ " خبر مبتدأ محذوف أي : المسئول عنه جزاؤه ، ثمَّ أفتوا بقولهم : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } كما تقول : من يَسْتَفتِ ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ ، ثمَّ يقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [ المائدة : 95 ] قاله الزمخشري .
قال أبو حيَّان : " وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله " المسئول عنه جزاؤه " على هذا التقدير ، ليس فيه كبير فائدة ، إذ قدلم علم من قوله : " فما جَزاؤهُ " أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته ، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي " .
قال شهابُ الدِّين : " قوله : " ليس فيه كبيرة فائدة " ممنوعٌ ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثال ذلك " .
الوجه الرابع : أني كون " جَزَاؤهُ " مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم ، والهاء تعود على السَّارق ، أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما ، ويكون قوله : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رحمه الله ولم يذكره الشَّيخُ .
قوله : { كذلك نَجْزِي الظالمين } محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ ، إمَّا حال من ضميره ، أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الضالمين أي : إذا سرق استرق .
قيل : هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه .
وقيل : إنهم لما قالوا : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } قال أصحاب يوسف : { كذلك نَجْزِي الظالمين } ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير ، فعند ذلك قال لهم المؤذن : لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.