اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالُواْ جَزَـٰٓؤُهُۥ مَن وُجِدَ فِي رَحۡلِهِۦ فَهُوَ جَزَـٰٓؤُهُۥۚ كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلظَّـٰلِمِينَ} (75)

قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته ، فلذلك قالوا : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي : فالسَّارقُ جزاؤه ، أي : فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه ، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق ، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق ، ويغرمه قيمة المسروق ، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم ؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم

قوله تعالى : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } فيه أربعة أوجه :

أحدهما : أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ ، و الضمير للسَّارق ، و " مَنْ " شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني ، والفاء جواب الشَّرط ، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و " مَنْ " وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ ، قاله ابن عطيَّة ، وهو مردودٌ ؛ لعدم رابط بين المبتدأ ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه ، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه .

وليس بظاهر ؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رحمه الله فإنَّه قال : " ويجوز أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ ، والجملة الشرطية كما هي خبره ، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر ، والأصل : جزاؤه ، من وجد في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضع " هو " كما تقول لصاحبك : مَنْ أخُوا زيدٍ ؟ فيقول لك : من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُو هو يرجع الضمير الأول إلى : " مَنْ " ، والثاني إلى الأخِ ، فتقولُ : " فهو أخوه " مقيماً الظاهر مقام المضمر " .

وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ ، ولم يعتقد أنه هو بعينه ، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة .

ثمَّ قال : " وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل ، وغير فصيح فيما سوى ذلك ، نحو : قام زيدٌ ، وينزه عنه القرآن .

قال سيبويه : " لو قلت : كان زيدٌ منطلقا زيدٌ " لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً ، ولم يكن كقولك : مازيدٌ مُنْطلقاً هُوَ ؛ لأنك قد استغنيت عن إظَهاره ، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره " .

قال شهابُ الدِّين : ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً ، وعليه بنى الزمخشريُّ ، وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال :

والوجه الثالث : أن يكون " جَزاؤهُ " مبتدأ ، و " مَنْ وُجِدَ " متبدأ ثان ، و " هُوَ " مبتدأ ثالثُ ، و " جَزَاؤهُ " خير الثالث ، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني " هُوَ " انتهى .

وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح ؛ إذ يصير التقدير : فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء ؛ لأنَّه جعل " هُوَ " عبارة عن المبتدأ الثاني ، وهو : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } وجعل الهاء الأخيرة ، وهي التي في : " جَزاؤهُ " الأخير عائدةٌ على : " جَزاؤهُ " الأوَّل ، فصار التقدير كما ذكرنا .

الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون : " جَزَاؤهُ " مبتدأ ، والهاء تعود على المسروق ، و { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره ، و " مَنْ " بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصّواع الذي وجد في رحله .

ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق ؛ لذلك استفتوا في جزائه ، وقوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } مبتدأ ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأول ، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ ، قال : " وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين ، قال : ويصحُّ أن يكون " مَنْ " خبراً على أن المعنى : جزاء السَّارق من وجد في رحله ، ويكون قوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة بيانٍ وتأكيد ، ثم قال : ويحتمل أن يكون التقدير : جزاؤه استرقاق من وجد في رحله ، ثم يؤكد قوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } ، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله : استرقاق من وجد في رحله ، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره ؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ ، فالتَّقدير في القول قبله : جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه ، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب .

وهذا ظاهره ، أنه جعل المقول الواحد قولين .

الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة : أن يكون : " جَزاؤهُ " خبر مبتدأ محذوف أي : المسئول عنه جزاؤه ، ثمَّ أفتوا بقولهم : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } كما تقول : من يَسْتَفتِ ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ ، ثمَّ يقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [ المائدة : 95 ] قاله الزمخشري .

قال أبو حيَّان : " وهو متكلف ، إذ تصير الجملة من قوله " المسئول عنه جزاؤه " على هذا التقدير ، ليس فيه كبير فائدة ، إذ قدلم علم من قوله : " فما جَزاؤهُ " أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته ، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك ، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي " .

قال شهابُ الدِّين : " قوله : " ليس فيه كبيرة فائدة " ممنوعٌ ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثال ذلك " .

الوجه الرابع : أني كون " جَزَاؤهُ " مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : جزاؤه عندنا كجزائه عندكم ، والهاء تعود على السَّارق ، أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما ، ويكون قوله : { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رحمه الله ولم يذكره الشَّيخُ .

قوله : { كذلك نَجْزِي الظالمين } محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ ، إمَّا حال من ضميره ، أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الضالمين أي : إذا سرق استرق .

قيل : هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه .

وقيل : إنهم لما قالوا : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } قال أصحاب يوسف : { كذلك نَجْزِي الظالمين } ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير ، فعند ذلك قال لهم المؤذن : لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم ، فانصرف بهم إلى يوسف .