القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىَ مِمّا وَجَدتّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوَاْ إِنّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك ، القائلين إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون أوَ لَوْ جِئْتُكُمْ أيها القوم من عند ربكم بأَهْدَى إلى طريق الحقّ ، وأدلّ لكم على سبيل الرشاد مِمّا وَجَدْتُمْ أنتم عليه آباءكم من الدين والمِلّة ، قالُوا إنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ يقول : فقال ذلك لهم ، فأجابوه بأن قالوا له كما قال الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها لأنبيائها : إنا بما أرسلتم به يا أيها القوم كافرون ، يعني : جاحدون منكرون . وقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى أبي جعفر قُلْ أوَ لَوْ جِئْتُكُمْ بالتاء . وذُكر عن أبي جعفر القارىء أنه قرأه «قُلْ أوَ لَوْ جِئْناكُمْ » بالنون والألف . والقراءة عندنا ما عليه قرّاء الأمصار لإجماع الحجة عليه .
{ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ } .
قرأ الجمهور { قُلْ } بصيغة فعل الأمر لِمفرد فيكون أمراً للرّسول صلى الله عليه وسلم بأن يَقوله جواباً عن قول المشركين { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } [ الزخرف : 22 ] .
وقرأ ابن عامر وحفص { قال } بصيغة فعل المضي المسند إلى المفرد الغائب فيكون الضمير عائداً إلى نذير الذين قالوا { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] . فحصل من القراءتين أن جميع الرّسل أجابوا أقوامهم بهذا الجواب ، وعلى كلتا القراءتين جاء فعل { قل } أو { قال } مفصولاً غير معطوف لأنه واقع في مجال المحاورة كما تقدم غير مرة ، منها قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة البقرة ( 30 ) .
وقرأ الجمهور جئتكم } بضمير تاء المتكلم . وقرأ أبو جعفر { جئنَاكم } بنون ضمير المتكلم المشارك وأبو جعفر من الذين قرأُوا { قل } بصيغة الأمر فيكون ضمير { جئنَاكم } عائداً للنبيء صلى الله عليه وسلم المخاطب بفعل { قُل } لتعظيمه صلى الله عليه وسلم من جانب ربّه تعالى الذي خاطبه بقوله : { قل } .
والواو في قوله : { أولو } عاطفة الكلام المأمور به على كلامهم ، وهذا العطف مما يسمى عطف التلقين ، ومنه قوله تعالى عن إبراهيم : { قال ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] . والهمزة للاستفهام التقريري المشوببِ بالإنكار . وقدمت على الواو لأجل التصدير .
و { لو } وصلية ، و { لو } الوصلية تقتضي المبالغة بنهاية مدلول شرطها كما تقدم عند قوله تعالى : { ولو افتدى به } في آل عمران ( 91 ) ، أي لو جئتكم بأهدى من دين آبائكم تبقون على دين آبائكم وتتركون ما هو أهدى .
والمقصود من الاستفهام تقريرهم على ذلك لاستدعائهم إلى النظر فيما اتبعوا فيه آباءهم لعل ما دعاهم إليه الرّسول أهدى منهم . وصوغ اسم التفضيل من الهَدي إرخاء للعنان لهم ليتدبروا ، نُزّل ما كان عليهم آباؤهم منزلة ما فيه شيء من الهُدى استنزالاً لطائر المخاطبين ليتصدّوا للنظر كقوله : { وإنّا أو إيّاكم لعلى هُدىً أو في ضلاللٍ مبينٍ } [ سبأ : 24 ] .
{ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } .
بدل من جملة { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] ، لأن ذلك يشتمل على معنى : لا نتبعكم ونترك ما وجدنا عليه آباءنا ، وضمير { قالوا } راجع إلى { مترفوها } [ الزخرف : 23 ] لأن موقع جملة { فانتقمنا منهم } [ الزخرف : 25 ] يعين أن هؤلاء القائلين وقع الانتقام منهم فلا يكون منهم المشركون الذين وقع تهديدهم بأولئك .
وقولهم : ( ما أرسلتم به ) يجوز أن يكون حكاية لقولهم ، فإطلاقهم اسم الإرسال على دعوة رُسلهم تهكم مثل قوله : { ما لهذا الرّسول يأكل الطعام } [ الفرقان : 7 ] ويجوز أن يكون حكاية بالمعنى وإنما قالوا إنّا بما زعمتم أنكم مرسلون به ، وما أرسلوا به توحيد الإله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} من الدين، ألا تتبعوني؟ فردوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ف {قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون} يعني بالتوحيد كافرون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، القائلين إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون "أوَ لَوْ جِئْتُكُمْ "أيها القوم من عند ربكم "بأَهْدَى" إلى طريق الحقّ، وأدلّ لكم على سبيل الرشاد "مِمّا وَجَدْتُمْ" أنتم عليه آباءكم من الدين والمِلّة، "قالُوا إنّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ" يقول: فقال ذلك لهم، فأجابوه بأن قالوا له كما قال الذين من قبلهم من الأمم المكذّبة رسلها لأنبيائها: إنا بما أرسلتم به يا أيها القوم كافرون، يعني: جاحدون منكرون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في ذلك حسن التلطف في الاستدعاء إلى الحق، وهو انه لو كان ما تدعونه حقا وهدى على ما تدعونه، لكان ما جئتكم به من الحق أهدى من ذلك وأوجب أن يتبع ويرجع إليه؛ لأن ذلك إذا سلموا أنه أهدى مما هم عليه بطل الرد والتكذيب، وإذا بطل ذلك لزم اتباعه في ترك ما هم عليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فلم ينجعْ فيهم قولُه، ولم ينفعهم وَعْظُه، وأَصرُّوا عَلَى تكذيبِهم، فانتقمَ الحقُّ- سبحانه -منهم كما فعل بالذين من قبلهم...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" مما وجدتم عليه آبائكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون "يعني بكل ما أرسل به الرسل، فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه لفظ الجمع؛ لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان كأنه قيل: فقال كل نذير: فما أصنع؟ أجاب بقوله: {قل} أي يا أيها النذير -هذا على قراءة الجماعة، وعلى قراءة ابن عامر وحفص وعاصم يكون التقدير أن السامع قال: فما قال النذير في جوابهم؟ فأجيب بقوله: قال إنكاراً عليهم:
{أولو} أي أتقتدون بآبائكم على كل حال وتعدونهم مهتدين ولو {جئتكم} والضمير فيه للنذير، وفي قراءة أبي جعفر: أو لو جئتكم للنذر كلهم.
{بأهدى} أي أمر أعظم في الهداية وأوضح في الدلالة.
{مما وجدتم} أي أيها المقتدون بالآباء {عليه آباءكم} كما تضمن قولكم أنكم تقتفون في اتباعهم بالآثار في أعظم الأشياء، وهو الدين الذي الخسارة فيه خسارة للنفس، وأنتم تخالفونهم في أمر الدنيا إذا وجدتم طريقاً أهدى من التصرف فيها من طريقهم ولو بأمر يسير، ويفتخر أحدكم بأنه أدرك من ذلك ما لم يدرك أبوه فحصل من المال أكثر مما حصل، فيا له من نظر ما أقصره، ومتجر ما أخسره.
ولما كان من المعلوم أن النذر قالوا لهم ما أمروا به؟ فتشوف السامع إلى جوابهم لهم، أجيب بقوله: {قالوا} مؤكدين رداً لما قطع به كل عاقل سمع هذا الكلام من أنهم يبادرون النظر في الدليل والرجوع إلى سواء السبيل: {إنا بما أرسلتم به} أي أيها المدعون للإرسال من أي مرسل كان، ولو ثبت ما زعمتموه من الرسالة ولو جئتمونا بما هو أهدى.
{كافرون} أي ساترون لما ظهر من ذلك جهدنا حتى لا يظهر لأحد ولا يتبعهم فيه مخلوق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تغلق قلوبهم على هذه المحاكاة، وتطمس عقولهم دون التدبر لأي جديد، ولو كان أهدى، ولو كان أجدى، ولو كان يصدع بالدليل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المقصود من الاستفهام: تقريرهم على ذلك؛ لاستدعائهم إلى النظر فيما اتبعوا فيه آباءهم؛ لعل ما دعاهم إليه الرّسول أهدى منهم. وصوغ اسم التفضيل من الهَدي إرخاء للعنان لهم ليتدبروا، نُزّل ما كان عليهم آباؤهم منزلة ما فيه شيء من الهُدى استنزالاً لطائر المخاطبين ليتصدّوا للنظر كقوله: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هُدىً أو في ضلالٍ مبينٍ} [سبأ: 24]...
وقولهم: (ما أرسلتم به) يجوز أن يكون حكاية لقولهم، فإطلاقهم اسم الإرسال على دعوة رُسلهم تهكم مثل قوله: {ما لهذا الرّسول يأكل الطعام} [الفرقان: 7] ويجوز أن يكون حكاية بالمعنى وإنما قالوا إنّا بما زعمتم أنكم مرسلون به، وما أرسلوا به توحيد الإله...