فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{۞قَٰلَ أَوَلَوۡ جِئۡتُكُم بِأَهۡدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمۡ عَلَيۡهِ ءَابَآءَكُمۡۖ قَالُوٓاْ إِنَّا بِمَآ أُرۡسِلۡتُم بِهِۦ كَٰفِرُونَ} (24)

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ، فقال : { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ } أي أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ، قال الزجاج : المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم ، وإن جئتكم بأهدى منه . قرأ الجمهور { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم } ، وقرأ ابن عامر وحفص " قال أو لو جئتكم " وهو حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم ، أي : قال كلّ منذر من أولئك المنذرين لأمته ، وقيل : إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم ، كأنه قال : لكل نبيّ قل ، بدليل قوله : { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } . وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه ، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ، ويتبعون آثارهم ، ويقتدون بهم ، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة ، أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها ، وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ، ولا حجة واضحة ، بل بمجرّد قال . وقيل : لشبهة داحضة ، وحجة زائفة ، ومقالة باطلة ، قالوا : بما قاله المترفون من هذه الملل : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك ، فإن قال لهم الداعي إلى الحقّ : قد جمعتنا الملة الإسلامية ، وشملنا هذا الدين المحمدي ، ولم يتعبدنا الله ، ولا تعبدكم ، وتعبد آباءكم من قبلكم إلاّ بكتابه الذي أنزله على رسوله ، وبما صحّ عن رسوله ، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه ، الفارق بين محكمه ومتشابهه ، فتعالوا نردّ ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله ، وسنّة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَيء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ] ، فإن الردّ إليهما أهدى لنا ولكم من الردّ إلى ما قاله أسلافكم ، ودرج عليه آباؤكم ، نفروا نفور الوحوش ، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر ، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] ، ولا قوله : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، فإن قال لهم القائل : هذا العالم الذي تقتدون به ، وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم ، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل ، فذلك رخصة له لا يحلّ أن يتبعه غيره عليها ، ولا يجوز له العمل بها ، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده ، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله ، أو فيما صحّ من سنّة رسوله ، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا نعمل بهذا ، ولا سمع لك ، ولا طاعة ، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنّة ، ولم يسلموا ذلك ، ولا أذعنوا له ، وقد وهب لهم الشيطان عصي يتوكئون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنّة ، وهي أنهم يقولون : إن إمامنا الذي قلدناه ، واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنّة رسوله ، وذلك لأن أذهانهم قد تصوّرت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدّم العصر ، وكثرة الأتباع ، وما علموا أن هذا منقوض عليهم ، مدفوع به في وجوههم ، فإنه لو قيل لهم : إن في التابعين من هو أعظم قدراً ، وأقدم عصراً من صاحبكم ، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء ، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصراً ، وأجلّ قدراً ، فإن أبيتم ذلك ، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدراً من صاحبكم علماً ، وفضلاً ، وجلالة قدر ، فإن أبيتم ذلك ، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً ، وأجلّ خطراً ، وأكثر أتباعاً ، وأقدم عصراً ، وهو محمد بن عبد الله نبينا ، ونبيكم ، ورسول الله إلينا ، وإليكم ، فتعالوا ، فهذه سنّته موجودة في دفاتر الإسلام ، ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن ، وعصراً بعد عصر ، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ، ورازق الكل ، وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت ، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ، ولا تبديل ، ولا زيادة ، ولا نقص ، ولا تحريف ، ولا تصحيف ، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ، ويتعقل معانيه ، فتعالوا لنأخذ الحقّ من معدنه ، ونشرب صفو الماء من منبعه ، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا سمع ولا طاعة ، إما بلسان المقال ، أو بلسان الحال ، فتدبر هذا ، وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف ، وشعبة من خير ، ومزعة من حياء ، وحصة من دين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم .

وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته «أدب الطلب ومنتهى الأرب » ، فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب ، وتتقشع لك سحائب التقليد .

/خ35