{ يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ : يا أيها الناس من جميع أصناف الملل ، يهودها ونصاراها ومشركيها ، الذين قصّ الله جلّ ثناؤه قصصهم في هذه السورة قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ يقول : قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بطول ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي جعله الله عليكم حجة قطع بها عذركم ، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم ، مع تعريفه إياكم صحة نبوّته وتحقيق رسالته . وأنْزَلْنا إلَيْكُمْ نُورا مُبِينا يقول : وأنزلنا إليكم معه نورا مبينا ، يعني : يبين لكم المحجّة الواضحة والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه إن سلكتموها واستنرتم بضوئه . وذلك النور المبين هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ قال : حجة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ : أي بينة من ربكم ، وأنْزَلْنا إلَيْكُمْ نُورا مُبِينا ، وهو هذا القرآن .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنَ رَبّكُمْ يقول : حجة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : برهان ، قال : ببينة وأنْزَلْنا إلَيْكُمْ نُورا مُبِينا قال : القرآن .
وقوله تعالى : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم } الآية إشارة إلى محمد رسول الله ، و «البرهان » : الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام ، والمعنى : قد جاءكم مقترناً بمحمد برهان من الله تعالى على صحة ما يدعوكم إليه وفساد ما أنتم عليه من النحل ، وقوله تعالى : { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } يعني القرآن فيه بيان لكل شيء ، وهو الواعظ الزاجر ، الناهي الآمر .
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال ، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل . فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّهاً إلى أهل الكتاب خاصّة . والبرهان : الحجّة ، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة ، وهو غالب ما يقصد به في القرآن ، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجَلّ أنواع الدليل ، بُرهاناً .
والمراد هنا دلائل النبوءة . وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله : { وأنزلنا } والقول في { جاءكم } كالقولِ في نظيره المتقدّم في قوله : { قد جاءكم الرّسول بالحقّ من ربّكم } [ النساء : 170 ] ؛ وكذلك القول في { أنزلنا إليكم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم}: بيان، وهو القرآن، {وأنزلنا إليكم نورا مبينا}: ضياء بينا من العمى، وهو القرآن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يا أيّها النّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ": يا أيها الناس من جميع أصناف الملل، يهودها ونصاراها ومشركيها، الذين قصّ الله جلّ ثناؤه قصصهم في هذه السورة "قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبّكُمْ": قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بطول ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله عليكم حجة قطع بها عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوّته وتحقيق رسالته. "وأنْزَلْنا إلَيْكُمْ نُورا مُبِينا": وأنزلنا إليكم معه نورا مبينا، يعني: يبين لكم المحجّة الواضحة والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه إن سلكتموها واستنرتم بضوئه. وذلك النور المبين هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} والبرهان هو الحجة، توضح، وتظهر الحق من الباطل. وقيل: بيان من ربكم، وهما واحد. وقال بعضهم: هو النبي صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: هو القرآن. فأيهما كان فهو حجة وبيان يلزم الحق، ويبين لمن لم يعاند.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ}؛ البرهان ما لاح في سرائرهم من شواهد الحق.
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}؛ وهو خطابه الذي في تأملهم معانيه حصولُ استبصارِهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
البرهان والنور المبين: القرآن. أو أراد بالبرهان دين الحق أو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبالنور المبين: ما يبينه ويصدقه من الكتاب المعجز.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} الآية إشارة إلى محمد رسول الله، و «البرهان»: الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، والمعنى: قد جاءكم مقترناً بمحمد برهان من الله تعالى على صحة ما يدعوكم إليه وفساد ما أنتم عليه من النحل، وقوله تعالى: {وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً} يعني القرآن فيه بيان لكل شيء، وهو الواعظ الزاجر، الناهي الآمر.
اعلم أنه تعالى: لما أورد الحجة على جميع الفرق من المنافقين والكفار واليهود والنصارى وأجاب عن جميع شبهاتهم عمم الخطاب. ودعا جميع الناس إلى الاعتراف برسالة محمد عليه الصلاة والسلام فقال: {يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} والبرهان هو محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما سماه برهانا لأن حرفته إقامة البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل، والنور المبين هو القرآن، وسماه نورا لأنه سبب لوقوع نور الإيمان في القلب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أزاح شبه جميع المخالفين من سائر الفرق: اليهود والنصارى والمنافقين، وأقام الحجة عليهم، وأقام الأدلة القاطعة على حشر جميع المخلوقات، فثبت أنهم كلهم عبيده؛ عمّ في الإرشاد لطفاً منه بهم فقال: {يا أيها الناس} أي كافة أهل الكتاب وغيرهم.
ولما كان السامع جديراً بأن يكون قد شرح صدراً بقواطع الأدلة بكلام وجيز جامع قال: {قد جاءكم برهان} أي حجة نيّرة واضحة مفيدة لليقين التام، وهو رسول مؤيد بالأدلة القاطعة من المعجزات وغيرها {من ربكم} أي المحسن إليكم بإرسال الذي لم تروا قط إحساناً إلا منه.
ولما كان القرآن صفة الرحمن أتى بمظهر العظمة فقال: {وأنزلنا} أي بما لنا من العظمة والقدرة والعلم والحكمة على الرسول الموصوف، منتهياً {إليكم نوراً مبيناً} أي واضحاً في نفسه موضحاً لغيره، وهو هذا القرآن الجامع بإعجازه وحسن بيانه بين تحقيق النقل وتبصير العقل، فلم يبق لأحد من المدعوين به نوع عذر، والحاصل أنه سبحانه لما خلق للآدمي عقلاً وأسكنه نوراً لا يضل ولا يميل مهما جرد، ولكنه سبحانه حفّه بالشهوات والحظوظ والملل والفتور، فكان في أغلب أحواله قاصراً إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ألحقه سبحانه بهم؛ أنزل كتبه بذلك العقل مجرداً عن كل عائق، وأمرهم أن يجعلوا عقولهم تابعة له منقادة به، لأنها مشوبة، وهو مجرد لا شوب فيه بوجه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
لما قامت الحجة في الآيات الأخيرة على النصارى وفيما قبلها على اليهود وهم أهل الكتاب، والمعرفة بالنبوات والشرائع، وقامت الحجة قبل ذلك على المنافقين في أثناء السورة كما قامت على المشركين فيها وفي سور كثيرة، وظهرت نبوة النبي الخاتم ظهور الشمس ليس دونها سحاب لأن سحب الشبهات قد انقشعت بالحجج المشار إليها كل الانقشاع، نادى الله تعالى الناس كافة ودعاهم إلى اتباع برهانه، والاهتداء بالنور الذي جاء به، فقال: {يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم} أي قد جاءكم من قبل ربكم، بفضله وعنايته بتربيتكم وتزكية نفوسكم، برهان عظيم أو جلي يبين لكم حقيقة الإيمان الصحيح بالله عز وجل، وجميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم – مؤيدا لكم ذلك بالدلائل والبينات والحكم، وهو محمد النبي العربي الأمي، الذي يظهر لكل من عرف سيرته في نشأته وتربيته، وحاله في بعثته وسنته، أنه هو نفسه برهان على حقية ما جاء به: أمي لم يتعلم شيئا من كتب قط، ولم يعن في طفولته ولا في شبابه بشيء مما كان يسمى علما عند قومه الأميين كالشعر والنسب وأيام العرب، قام في كهولته يعلم الأميين والمتعلمين حقائق العلوم الإلهية، وصفات الربوبية، وما يجب لتلك الذات العلية، وما تتزكى به النفس البشرية، وتصلح به الحياة الاجتماعية، ويكشف ما اشتبه على أهل الكتاب من أصول دينهم، وما اضطرب فيه نظار الفلسفة العليا من مسائل فلسفتهم، ويرفع قواعد الإيمان على أساس الحجج الكونية العقلية، ويسلك هذا المسلك في بيان الشرائع العلمية، والحكمة الأدبية، والسياسية والحربية والاجتماعية، كل ذلك كان على طريق الحجة والبرهان، فلا غرو أن يسمى هو نفسه برهانا.
وهو برهان بسيرته العملية، كما أنه برهان في دعوته الشرعية، فقد نشأ يتيما لم يعن بتربيته عالم ولا حكيم ولا سياسي، بل ترك كما كان ولدان المشركين يتركون وشأنهم، وكان في سن التعليم وتكون الأخلاق والملكات يرعى الغنم نهارا وينام من أول الليل، فلا يحضر سمار قومه (مواضع السمر في الليل) ولا معاهد لهوهم، واتجر قليلا في شبابه، مع قومه من أبناء الجاهلية وأترابه، فهو لم يصادف من التربية المنزلية والتأديب الاجتماعي في أول نشأته، ما يؤهله للمنصب الذي تصدى له في كهولته، وهو تربية الأمم تربية دينية اجتماعية سياسية حربية، ولكنه قام بهذه التربية أكمل قيام، وما زال يعجز عن مثل ما قام به من يستعدون له بالعلوم والأعمال، فكان بهذا برهانا على عناية الله به، وتأييده إياه وبوحيه وتوفيقه، وذلك قوله عز وجل: {وأنزلنا إليكم نورا مبينا} أي أنزلنا إليكم أيها الناس بما أوحينا إليه كتابا من لدنا هو كالنور: بيّن في نفسه، مبين لكل ما أنزل لبيانه، وتنجلي لكم الحقائق ببلاغته وأساليب بيانه بحيث لا يشتبه فيها من تدبره وعقل معانيه، بل تثبت في عقله، وتؤثر في قلبه، وتكون هي الحاكمة على نفسه، والمصلحة له عمله.
مثال ذلك توحيد الله في ألوهيته وربوبيته، هو أثبت الحقائق، وأعلى ما يصل إليه البشر من المعارف، وأفضل ما تتزكى به النفوس، وتترقى به العقول، وقد بعث به جميع رسل الله إلى جميع الأمم، كان كل منهم يدعو أمته إليه، وكان يستجيب الناس لهم بقدر استعدادهم لفهم هذه الحقيقة العليا، ثم لا يلبثون أن يشوهوها بعدَهم بالشرك وضروب الوثنية التي تطمس العقول، وتدنس النفوس، وتهبط بالفطرة البشرية من أوج كرامتها وعزتها التي جعلها الله أهلا لها، إلى المهانة والذلة بالخضوع والخنوع والاستخداء لبعض المخلوقات من جنسهم أو من أجناس أخرى فضل الله جنسهم عليها، وكان أقرب الأمم التاريخية عهدا بالأنبياء والرسل اليهود والنصارى وكانوا على نسيانهم حظا مما ذكروا به لا يزالون يحفظون بعض وصايا رسلهم بالتوحيد ولكنهم لا يفقهون معناها إذ يلبسونها بالشرك في الألوهية كاتخاذ المسيح إلها بل اتخاذ من دونه من مقدسيهم آلهة أو أنصاف آلهة يزعمون أنهم وسطاء بينهم وبين الله في كل ما ينفعهم ويضرهم في معاشهم ومعادهم، وبالشرك في الربوبية باتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ويحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم.
هكذا كانت اليهود والنصارى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتبعون أناسا من علمائهم وأحبارهم ومقدسيهم في عقائد وآداب وشرائع مشوبة بالوثنية والخضوع لغير الله تعالى، لم تؤخذ من وحي الله المنزلة كما هو الواجب في أمور الدين الخالص من العقائد والعبادات وسائر ما يتقرب به إلى الله تعالى، ولو كان البشر يستقلون بمعرفة هذا من غير وحي من الله لما كانوا محتاجين إلى بعثة الرسل. وقد يزعمون أنهم كانوا مبينين لما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، ولو صدقوا لما صار دينهم في شكل غير ما كانا عليه هما ومن كان متبعا لهما في زمنهما، بحيث لو بعثا ثانية لأنكرا كل ما عليه هؤلاء الأعيان أو أكثره. وإذا كان الركن الأعظم لدينهما وهو التوحيد قد زلزل عند اليهود وزال من عند النصارى فكيف يكون دينهما هو دين موسى وعيسى عليهما السلام؟. هذه إشارة إلى ما كان عليه أقرب الناس عهدا بدعوة الرسل إلى التوحيد فما ظنك بغيرهم؟، فما الذي فعله القرآن في بيان هذه العقيدة؟
لو لم يجئ محمد عليه الصلاة والسلام في بيان التوحيد بغير عنوانه في الشهادتين (لا إله إلا الله) لما كان كتابه نورا مبينا لهذا الحقيقة لأن من أشرك من أهل الكتاب وأمثالهم من الأمم القديمة كالهنود والكلدانيين والمصريين واليونان كانوا يقولون إن الإله واحد، وبعضهم كان يصرح بمثل كلمة التوحيد عندنا أو بها نفسها ولكنهم كانوا على ذلك مشركين يزعمون أن بعض البشر أو الحيوان أو الجماد ينفع أو يضر بصفة خارقة للعادة غير داخلة في سلسلة نظام الأسباب والمسببات، فيتوجهون إلى تلك الأشياء المعتقدة توجه العباد. ويزعمون أن ما جاء به رسلهم من أحكام الدين غير كاف في بيان الدين فيجب تركه إلى ما يضعه رؤسائهم من أحكام الحلال والحرام من غير نظر التقليدي فيه، لدعمه به وإرجاعه إليه.
فلما كانت الوثنية قد تغلغلت في جميع الأديان المأثورة وأفسدتها على أهلها، فقلد بعضها بعضا فيما ورثوه منها، أنزل الله لهداية البشر هذا النور المبين (القرآن) فكان أشد إبانة لدقائق مسائل التوحيد وخفاياها من نور الكهرباء المتألق في هذا العصر الذي نرى فيه السراج الواحد في قوة أو ألوف من نور الشمع، فبين لمن يفهم لغته حقيقة التوحيد بالدلائل والبراهين الكونية والعقلية، وضرب الأمثال المادية والمعنوية وضروب القصص والمواعظ، والهداية إلى النظر والتجارب، وكشف ما ران على هذه العقيدة من شبهات المضلين، وأوهام الضالين، التي مزجتها بالشرك مزجا، جمع بين الضدين بل النقضين جمعا، ولون أساليب الكلام فيها ونوعه لتتقبل النفس تكراره بقبول حسن، ولا يعرض لها من ترتيل آياته شيء من الملل، فكان بيانه في تشييد صرح الوحدانية، وتقويض بناء الوثنية، بيانا لم يعهد مثله في كماله وتأثيره في كتاب بشري ولا إلهي.
إلا أن إدراك هذه الحقيقة العليا والإحاطة بها، والعلم بما كان من ضروب الشبهات عليها، والأباطيل المتخللة فيها، وبما لها من التمكن في نفوس الناس، وما يتوقف عليه امتلاخها وانتزاعها من فنون البيان، بحسب سنة الله تعالى في تحويل الأمم من حال إلى حال، كل ذلك مما لا يعقل أن يتفق لرجل أمي لم يقرأ كتابا في الدين ولا في العلم، ولا عاشر أحدا عارفا بهما، كيف وقد كان ذلك فوق علوم الذين صرفوا كل حياتهم في الدرس والقراءة. بل نقول إن هذا البيان الأكمل لتقرير التوحيد واجتثاث جذور الوثنية الذي جاء به القرآن وأشرنا إليه آنفا لم يكن قط معهودا من الحكماء الربانيين، ولا من النبيين والمرسلين، دع من دونهم من الأميين أو المتعلمين، لهذا تعين أن يكون الله تعالى هو المنزل لهذا النور المبين، {وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء:195 196].
فمن تأمل ما قلناه بإنصاف ظهر له به على اختصاره أن محمدا النبي الأمي صلى الله عليه وآله وسلم كان نفسه برهانا من الله تعالى أي حجة قطعية على حقية دينه، وأن كتابه القرآن العربي أنزل من العلم الإلهي عليه، ولم يكن لعلمه الكسبي أن يأتي بمثله، وإنما أنزل نورا مبينا إلى جميع الناس، ليروا بتدبره حقيقة دين الله الذي يسعدون به في حياتهم الدنيا، وينالون به في الآخرة ما هو خير وأبقى، ولذلك قال:
{فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل}
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة، ويوضح لهم المحجة، فقال: {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن رَّبِّكُمْ} أي: حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه، وتبين ضده. وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية، الآيات الأفقية والنفسية {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ} وفي قوله: {مِن رَّبِّكُمْ} ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته، حيث كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية، فمن تربيته لكم التي يحمد عليها ويشكر، أن أوصل إليكم البينات، ليهديكم بها إلى الصراط المستقيم، والوصول إلى جنات النعيم. {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا} وهو هذا القرآن العظيم، الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره، وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن ثم دعوة إلى الناس كافة -كتلك الدعوة التي أعقبت المواجهة مع أهل الكتاب من اليهود في الدرس الماضي- أن الرسالة الأخيرة تحمل برهانها من الله. وهي نور كاشف للظلمات والشبهات. فمن اهتدى بها واعتصم بالله فسيجد رحمة الله تؤويه؛ وسيجد فضل الله يشمله؛ وسيجد في ذلك النور والهدى إلى صراط الله المستقيم:
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم؛ وأنزلنا إليكم نورا مبينا. فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل، ويهديهم إليه صراطا مستقيمًا)..
وهذا القرآن يحمل برهانه للناس من رب الناس.
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم).
إن طابع الصنعة الربانية ظاهر فيه؛ يفرقه عن كلام البشر وعن صنع البشر.. في مبناه وفي فحواه سواء. وهي قضية واضحة يدركها أحيانا من لا يفهمون من العربية حرفا واحدا، بصورة تدعو إلى العجب.
كنا على ظهر الباخرة في عرض الأطلنطي في طريقنا إلى نيويورك، حينما أقمنا صلاة الجمعة على ظهر المركب.. ستة من الركاب المسلمين من بلاد عربية مختلفة وكثير من عمال المركب أهل النوبة. وألقيت خطبة الجمعة متضمنة آيات من القرآن في ثناياها. وسائر ركاب السفينة من جنسيات شتى متحلقون يشاهدون!
وبعد انتهاء الصلاة جاءت إلينا -من بين من جاء يعبر لنا عن تأثره العميق بالصلاة الإسلامية- سيدة يوغسلافية فارة من الشيوعية إلى الولايات المتحدة! جاءتنا وفي عينيها دموع لا تكاد تمسك بها وفي صوتها رعشة. وقالت لنا في انجليزية ضعيفة: أنا لا أملك نفسي من الإعجاب البالغ بالخشوع البادي في صلاتكم.. ولكن ليس هذا ما جئت من أجله.. إنني لا أفهم من لغتكم حرفا واحدا. غير أنني أحس أن فيها إيقاعا موسيقيا لم أعهده في أية لغة.. ثم.. إن هناك فقرات مميزة في خطبة الخطيب. هي أشد إيقاعا. ولها سلطان خاص على نفسي!!!
وعرفت طبعا أنها الآيات القرآنية، المميزة الإيقاع ذات السلطان الخاص!
لا أقول: إن هذه قاعدة عند كل من يسمع ممن لا يعرفون العربية.. ولكنها ولا شك ظاهرة ذات دلالة!
فأما الذين لهم ذوق خاص في هذه اللغة، وحس خاص بأساليبها، فقد كان من أمرهم ما كان؛ يوم واجههم محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن.. وقصة الأخنس بن شريق، وأبى سفيان بن حرب، وأبى جهل وعمرو بن هشام، في الاستماع سرا للقرآن، وهم به مأخوذون، قصة مشهورة. وهي إحدى القصص الكثيرة.. والذين لهم ذوق في أي جيل يعرفون ما في القرآن من خصوصية وسلطان وبرهان من هذا الجانب..
فأما فحوى القرآن.. التصور الذي يحمله. والمنهج الذي يقرره. والنظام الذي يرسمه. و "التصميم "الذي يضعه للحياة.. فلا نملك هنا أن نفصله.. ولكن فيه البرهان كل البرهان على المصدر الذي جاء منه؛ وعلى أنه ليس من صنع الإنسان، لأنه يحمل طابع صنعة كاملة ليس هو طابع الإنسان.
نور تتجلى تحت أشعته الكاشفة حقائق الأشياء واضحة؛ ويبدو مفرق الطريق بين الحق والباطل محددا مرسوما.. في داخل النفس وفي واقع الحياة سواء.. حيث تجد النفس من هذا النور ما ينير جوانبها أولا؛ فترى كل شيء فيها ومن حولها واضحا.. حيث يتلاشى الغبش وينكشف؛ وحيث تبدو الحقيقة بسيطة كالبديهية، وحيث يعجب الإنسان من نفسه كيف كان لا يرى هذا الحق وهو بهذا الوضوح وبهذه البساطة؟!
وحين يعيش الإنسان بروحه في الجو القرآني فترة؛ ويتلقى منه تصوراته وقيمه وموازينه، يحس يسرا وبساطة ووضوحا في رؤية الأمور. ويشعر أن مقررات كثيرة كانت قلقة في حسه قد راحت تأخذ أماكنها في هدوء؛ وتلتزم حقائقها في يسر؛ وتنفي ما علق بها من الزيادات المتطفلة لتبدو في براءتها الفطرية، ونصاعتها كما خرجت من يد الله..
ومهما قلت في هذا التعبير: "وأنزلنا إليكم نورا مبينًا.. فإنني لن أصور بألفاظي حقيقته، لمن لم يذق طعمه ولم يجده في نفسه! ولا بد من المكابدة في مثل هذه المعاني! ولا بد من التذوق الذاتي! ولا بد من التجربة المباشرة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل. فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّهاً إلى أهل الكتاب خاصّة. والبرهان: الحجّة، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة، وهو غالب ما يقصد به في القرآن، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجَلّ أنواع الدليل، بُرهاناً.
والمراد هنا دلائل النبوءة. وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله: {وأنزلنا} والقول في {جاءكم} كالقولِ في نظيره المتقدّم في قوله: {قد جاءكم الرّسول بالحقّ من ربّكم} [النساء: 170]؛ وكذلك القول في {أنزلنا إليكم}.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وأنزلنا إليكم نورا مبينا}؛ أنزلنا إليكم مواعظ وقصصا وأحكاما شرعية هي كالنور في هدايته وإرشاده وبيانه للأشياء فهي مبينة للطريق المستقيم، والنهج القويم والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
أما رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الخاتم فقد تجلت معجزته في أنها عين منهجه إنها القرآن ولم تنفصل المعجزة عن المنهج، لأنه رسول عام إلى الناس كافة وإلى أن تقوم الساعة، هذا هو البرهان أما "النور "فقد جاء أيضا من أمر حسي، لأن النور يمنع الإنسان من أن يتعثر في مشيته أو أن يخطئ الطريق أو أن يصطدم بالأشياء فيؤذيها أو تؤذيه إذن النور الموجود في القرآن هو حقائق القيم أما نور الله في الماديات فهو أمر معروف للكافة.