تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا قَوۡلُ ٱلۡبَشَرِ} (25)

أي : ليس بكلام الله . وهذا المذكور في هذا السياق هو : الوليد بن المغيرة المخزومي ، أحد رؤساء قريش - لعنه الله - وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي ، عن ابن عباس قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله{[29492]} عن القرآن ، فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة . فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذْي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله . فلما سمع بذلك النفرُ من قريش ائتمروا فقالوا : والله لئن صبا الوليد لتصْبُوَنَّ قريش . فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال : أنا والله أكفيكم شأنه . فانطلق حتى دخل عليه بيته فقال للوليد : ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ فقال : ألستُ أكثرهم مالا وولدا . فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه . فقال الوليد : أقد{[29493]} تحدث به عشيرتي ؟ ! فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ، ولا عمر ، ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر . فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } إلى قوله : { لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ }

وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وما أشك أنه سحر . فأنزل الله : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } الآية ، { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } قبض ما بين عينيه وكلح .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، أخبرنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن عَبَّاد بن منصور ، عن عكرمة : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له . فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام ، فأتاه فقال : أي عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا . قال : لم ؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمدًا تَتَعَرض لما قبله . قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالا . قال : فقل فيه قولا يعلم قومك أنك{[29494]} منكر لما قال ، وأنك كاره له . قال : فماذا أقول فيه ؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقوله شيئًا من ذلك . والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى . وقال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه . قال : فدعني حتى أفكر فيه . فلما فكر قال : إن هذا سحر يأثره عن غيره . فنزلت : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } [ قال قتادة : خرج من بطن أمه وحيدا ]{[29495]} حتى بلغ : { تِسْعَةَ عَشَرَ } {[29496]}

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا . وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه ، قبل أن يقدم عليهم وفودُ العرب للحج ليصدّوهُم عنه ، فقال قائلون : شاعر . وقال آخرون : ساحر . وقال آخرون : كاهن . وقال آخرون : مجنون . كما قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48 ] كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ، ففكر وقدر ، ونظر وعبس وبسر ، فقال : { إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ }


[29492]:- (1) في م، أ: "يسأله".
[29493]:- (2) في أ: "أوقد".
[29494]:- (3) في م: "أنه".
[29495]:- (4) زيادة من تفسير الطبري
[29496]:- (5) تفسير الطبري (29/98).